في بيئة مادية.. هل تكفيني النجاة بنفسي أم تجب عليَّ الدعوة؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : التخطيط الدعوي
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 78
  • رقم الاستشارة : 2868
04/10/2025

أنا شاب عايش في بيئة الناس فيها ما تهتم بالدين، وأغلب حواراتهم ونقاشاتهم في أشياء مادية دنيوية، وحتى سلوكياتهم اليومية تتعارض كثيرًا مع أساسيات الدين.

ودِّي أسوِّي شيء إيجابي؛ أذكِّر الناس وأعلِّمهم أو أساعدهم على الطاعة. لكني ما عندي علم شرعي كافي، وما عندي فرصة أدرس علم شرعي بشكل منظم. خوفي إني أتكلم عن الدين وأغلط، وبالتالي أنفِّر الناس منه.

فهل يكفيني إني أكون شخص مستقيم وبس؟ أو لازم أتكلم وأدعو الناس؟

جزاكم الله خيرًا.

الإجابة 04/10/2025

مرحبًا بك يا ولدي، وشكر الله لك تواصلك معنا، وعلى سؤالك الذي يدل على نبل روحك وصدق غيرتك على دينك وأهلك. وأسأل الله العظيم أن يبارك في همتك، ويجعلك مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وأن يثبِّتك على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبعد...

 

غيرة المؤمن والبحث عن التوازن

 

لقد لمستُ في سؤالك عمق الإيمان الذي لا يرضى بالسكوت أمام الغفلة، وهذا الشعور بالرغبة في الإصلاح هو علامة خير عظيمة. إنها الغيرة على دين الله، وهي الدافع الذي حرك الأنبياء والصالحين على مر العصور.

 

إن البيئات المادية التي وصفتها لطالما عاش فيها الدعاة الصالحون في مجتمعات طغت عليها شهوات الدنيا. وسؤالك عن الموازنة بين الاستقامة الشخصية والدعوة إلى الله هو سؤال المصلح الحصيف الذي يخشى أن يفسد من حيث أراد الإصلاح.

 

والأمر ليس خيارًا بين «أن تكون مستقيمًا فقط» أو «تكون داعية فقط»؛ بل هو التكامل الحكيم بين الأمرين.

 

الاستقامة دعوة صامتة بليغة

 

إن كونك مستقيمًا في بيئة غافلة هو الخطوة الأولى والأقوى في دعوتك للناس. فالاستقامة تعني الثبات على الأمر واتباع المنهج، كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112].

 

هذه الاستقامة هي التي تضيء محيطك دون أن تتحدث. تذكَّر أن الناس لا يتأثرون بالخطب الطويلة بقدر ما يتأثرون بنموذج حي يجسد الأخلاق والقيم التي يدعو إليها..

 

فعندما يراك زملاؤك أو جيرانك شابًّا:

 

* صادقًا لا يغش في عمله، رغم تفشي الغش.

 

* عفيفًا لا ينجرف وراء الشهوات الشائعة والتي يروِّج لها الجميع.

 

* ودودًا رحيمًا في تعامله، رغم القسوة والغلظة السائدتين بين الناس.

 

حينها، سيسألون أنفسهم: ما سر هذا التوازن؟

 

إن هذا السلوك هو الذي يفتح القلوب ويهيئها لسماع الكلمة الطيبة. لقد سُئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن خُلُق النبي ﷺ فقالت: «كان خُلقُه القرآن» [رواه مسلم]. فاجتهد أن تكون كذلك.

 

فقبل أن تفكر في إصلاح غيرك، عليك أن تحصِّن ذاتك من الانجراف. إن نجاحك في الثبات رغم المغريات هو أعظم إنجاز. وهذا الثبات سيمدك بالقوة الداخلية والسكينة التي سيشعر بها كل من حولك، ويدفعهم للتساؤل عن مصدرها.

 

الدعوة واجبة ولكن بالحكمة والعِلم

 

إن الخوف من الخطأ في الدعوة خوف نبيل ومطلوب؛ لأنه يدل على ورعك وتوقيرك لدين الله. وهذا الخوف يدفعنا للبحث عن طرق آمنة وموثوقة للدعوة لا تشترط سعة العلم الشرعي، منها:

 

1. الدعوة بما تعلَّمت:

 

إن الدعوة ليست حكرًا على العلماء والمشايخ؛ بل هي واجب على كل مسلم، حيث قال نبينا ﷺ: «بلِّغوا عني ولو آية» [رواه البخاري]. وهذا يعني أنه لا يلزمك أن تكون فقيهًا؛ بل يكفيك أن تبلِّغ المعلومة الصحيحة المؤكدة التي تعلَّمتها.

 

وإياك إياك أن تتصدر للفتوى. فإذا سألك أحدهم سؤالًا شرعيًّا لا تعرف إجابته بيقين، فقل بمنتهى الوضوح والصراحة: «والله يا أخي هذا الأمر يحتاج لسؤال أهل العلم، فلنبحث معًا عمن يفتينا فيه».

 

2. نبذ المسائل الخلافية:

 

ركِّز دعوتك على الأمور المتفق عليها، والتي لا يختلف عليها اثنان، وهي الأساسيات الأخلاقية والإنسانية التي تتفق مع الفطرة، مثل الدعوة إلى مكارم الأخلاق، كالأمانة، والحياء، والرحمة، واللين، والبر، وغض البصر، وكظم الغيظ، والعفو... إلخ.

 

3. التدرج وعدم الإلحاح:

 

الدعوة الناجحة في بيئتك هي التي تبدأ بـبناء الجسور بينك وبين من حولك، قبل بناء القناعات. الناس في بيئتك لا يحتاجون إلى مُعاتِب أو ناقد؛ بل يحتاجون إلى صديق طيب يشاركهم اهتماماتهم المباحة، ويُدخلهم في عالمه الإيجابي تدريجيًّا.

 

وسائل عملية للتأثير الإيجابي

 

1. كن قنطرة للخير، وذلك عن طريق:

 

* التوجيه للمحتوى النافع: لا تتكلم أنت؛ بل أرسل لهم مقاطع فيديو قصيرة مؤثرة أو مقالات موثوقة لمشايخ وعلماء متخصصين.

 

* المشاركة في الخير: كزيارة مريض، أو مساعدة محتاج، أو المبادرة في الأعمال التطوعية، فالعمل الجماعي يخلق رابطًا عاطفيًّا، ومن خلال هذا العمل، ستمارس الدعوة بالقدوة.

 

2. اطرح الأسئلة: في النقاشات حول طبيعة المجتمع المادية، لا تبدأ بالهجوم أو الإدانة؛ بل استخدم السؤال اللطيف الذي يثير التفكير. مثلًا: اسألهم بهدوء: «متى ينتهي هذا السباق؟ هل السعادة في جمع المال أم في شيء آخر؟ ما الهدف من هذه الحياة؟ لماذا خلقنا الله؟... إلخ». قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].

 

3. الصبر والاستمرار: تذكر وصية لقمان لابنه التي حكاها القرآن: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]. فالدعوة والتربية تحتاج إلى الصبر. قد لا ترى الثمرة اليوم، ولكن ثق أن استقامتك وكلماتك الطيبة ستترك أثرًا عميقًا في القلوب، حتى لو لم يظهر مباشرة.

 

وختامًا يا ولدي، إن واجبك تجاه بيئتك هو أن تكون مخالطًا لهم بالاستقامة واللين، لا راهبًا منعزلًا. فابدأ بترسيخ استقامتك، ثم ادعُ الناس بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن.

 

توكل على الله، واستعن به، وأسأله -سبحانه- أن يوفقك ويسدد خطاك ويحفظك ويتقبل منك.

 

روابط ذات صلة:

كيف أثبت على ديني في بيئة تغلب عليها الماديات؟

ثباتٌ في وجه الفتنة.. كيف يحصّن الشاب نفسه في بيئة الاختلاط؟

كيف أحافظ على ديني وقيمي في بيئة عمل صعبة؟

كيف تحفظ المسلمة كرامتها في بيئة العمل المختلط؟

حفظ قلب المرأة في بيئة العمل

بيئة عملي تسودها المخالفات.. هل بقائي إقرار بالباطل؟

غريب في بيئة العمل.. فهل أترك الوظيفة؟

 

الرابط المختصر :