صناعة الفتوى.. المفهوم والضوابط

Consultation Image

الإستشارة 03/09/2025

سمعنا أن الفتوى صناعة كغيرها من الصناعات فما المقصود بصناعة الفتوى وما الذي يترتب عليها؟

الإجابة 03/09/2025

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

تعريف صناعة الفتوى

 

فالمقصود بصناعة الفتوى؛ الملكة الفقهية التي يستطيع بها المفتي إخبار المستفتي عن الحكم الشرعي من خلال النظر في الأدلة ومراعاة الزمان والمكان والأحوال، ويجب على المفتي أن يستوفي شروط النظر في الأدلة وفهم الواقع، ومن ثمَّ أطلق عليها صناعة، بل هي في الواقع من الصناعات الثقيلة التي تحتاج إلى فريق عمل منظم ومتكامل حتى تخرج الصناعة محكمة.

 

فالواقع الذي نعيش فيه الآن واقع معقد مركب يختلط فيه السياسي بالاقتصادي، ويحتاج فيه الاجتماعي إلى الشرعي، ولا بد للفرد أو الهيئة التي تمارس الفتوى أن تراعي هذا الواقع بكل مفرداته وتشابكاته.

 

الفتوى صناعة علمية مركبة

 

يقول الشيخ عبد الله بن بيه في كتاب يحمل عنوان صناعة الفتوى وفقه الأقليات: الفتوى صناعة؛ لأن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراية وعمل، فهي ليست فعلا ساذجًا ولا شكلاً بسيطًا بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة هي الفتوى، إذًا فالفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع، والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته.

 

قال السبكي في الإبهاج: وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول: علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظنُّ واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يُسمى علمًا ويُسمى صناعة.

 

وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظنِّ لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح، أو أرادوه ولحَظوا معه معنى العلم في الأصل، ويطلق النحاة العلم أيضًا على المعرفة.

 

وقال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في علم الأصول وهو يتحدث عن صناعة الفقه وأصوله في مقدمته: وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن الصواب في هاتين المعرفتين كالعلم بالدلائل وأقسامها وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمّها سبارًا وقانونًا فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس فيما لا يؤمن أن يغلط فيه.

 

وبين أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعبًا والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر.

 

وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفيما سلف من لدن وفاة رسول الله ﷺ وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه ﷺ بهاتين الحالتين ولذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.

 

وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة ويسقط الاعتراض عليها بأن لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها، وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها وأنت تتبين ذلك في فتواهم رضي الله عنهم بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاويهم في مسألة مسألة. أ.هـ.

 

ويقول الدكتور قطب مصطفى سانو: إن الفتوى صناعة من جهة احتياجها إلى الدراية والتعمل والدربة؛ إذ هي ليست فعلاً فجًّا، وسبيلاً موطأ؛ وإنما هي قضية مركبة يتآزر فيها الفهم والتنزيل للتهدي إلى الحكم الشرعي المناسب لخصوص المسالة، وكل ما يحتاج فيه إلى النظر في المعقولات لتحصيل المطلوب فهو صناعة.

 

قال السبكي – رحمه الله-: إن الفتوى صناعة ذات طبيعة خاصة، وذلك بحسبانها فنًّا وعلمًا خاصًّا لا يحق لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر اقتحام حماها أو ممارستها قبل أن يتوافر على أدواتها، ويخبر ضوابطها، ويتشبع من آدابها، وقد ورد الوعيد الشديد في القرآن الكريم والسنة النبوية لكل من يعتدي على حماها، ويتصدى لها قبل التمكن من أدواتها، وضوابطها، وآدابها، لما في ذلك من افتئات على الله، وتخريب لأديان الناس.

 

إن صناعة الفتوى تعني تلك الملكة الراسخة وذلك العلم المنهجي الموضوعي الواقعي الذي يقتدر به على إخبار السائل عن حكم الشرع بدليله في نازلة من النوازل إخبارًا يمكنه من تمثل ذلك الحكم، والصدور عنه في ضوء الواقع الذي يعيش فيه. ولا سبيل إلى جودة هذه الصناعة وسدادها ما لم يتمكن صانعها من أدواتها، وما لم يلتزم بضوابطها، ويتحلى بآدابها.

 

تطور أدوات صناعة الفتوى

 

إن أدوات صناعة الفتوى بوصفها علومًا ومعارف كسبية، فإنها كانت ولا تزال تتجدد بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع، ولم تعرف هذه العلوم والمعارف ثباتًا في مضامينها، ولا استقرارًا في عددها، إذ كان أهل العلم يجددون فيها القول بين الفينة والأخرى، ومرد هذا كله إلى تجدد مجالات الإفتاء، وتطور مسائله وتوسع قضاياه، فكل ما استجد مجال الإفتاء وتبعه تجديد، إن في مضامين تلك العلوم والمعارف القائمة، أو تجديد في عدد تلك العلوم والمعارف، تمكينًا للمفتي من استيعاب التطورات والتفاعل مع المتغيرات والأوضاع. أ.هـ.

 

وبهذا يتبين خطورة الفتوى، وأنه لا يتصدى لها إلا من كان أهلاً لها.

                                                    

والله تعالى أعلى وأعلم

الرابط المختصر :