Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. ماهر السوسي
  • القسم : فتاوى أخرى
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 24
  • رقم الاستشارة : 2097
16/06/2025

فضيلة المفتي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كثيرًا ما أسمع من يقول عندما يسأل عن حكم شرعي عبارة (استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك)، فما صحة هذه العبارة؟ وهل هي من الشرع؟

الإجابة 16/06/2025

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

 

السائل الكريم، حياك الله وإليك الإجابة على سؤالك.

 

إن هذه العبارة قد انتشرت على ألسنة عوام الناس وهم لا يدركون حقيقتها، ولا يعلمون معناها وما فيها من مخالفة الشرع؛ ذلك أن الله تعالى يقول: ﴿إِن ِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾؛ فالله تعالى يبين في هذه الآية أنه هو صاحب الحكم ولا حاكم سواه، وأن الحكم في أمور الخلق هو من أخص خصوصياته سبحانه وتعالى، فهو وحده المشرع، وليس لأحد غيره حق في التشريع.

 

ثم إنه يقول: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ﴾، وهذه الآية كسابقتها تخبر أنه لا حاكم إلا الله، ذلك أنه (يقص الحق) أي: يقول الحق، (وهو خير الفاصلين) أي: هو خير من يفصل بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، ذلك أنه قال عن نفسه (وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ۡالحكيم﴾؛ أي الذي يعلم ما يصلح الخلق وما يفسدهم، والذي بحكمته يأمرهم بما ينفعهم، وينهاهم عما يضرهم.

 

ثم إن الله عز وجل قد شرط لصحة الإيمان به التصديق بأنه وحده هو المشرع، فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾ (النِّسَاء: 65).

 

وللتأكيد على هذا المعنى فإنه من المفيد أن نذكر سبب نزول هذه الآية، حيث ذكر بعض المفسرين أنه احتكم رجلان إلى رسول الله ﷺ فقضى بينهما، فلم يرض المحكوم عليه بذاك وقال نحتكم عند أبي بكر، فحكم بينهما بحكم رسول الله ﷺ، لكن المحكوم عليه لم يرض بذلك وقال نحتكم إلى عمر بن الخطاب، فلما أتياه قال صاحب الحق: قد تحاكمنا عند النبي ﷺ وعند أبي بكر الصديق فحكما لي ولم يرض هذا بحكمهما وأراد أن نحتكم إليك، فسأل عمر -رضي الله عنه- المحكوم عليه ألا ترضى بحكم رسول الله ﷺ؟ فقال: بلى وجئنا لنحتكم عندك، فقال عمر -رضي الله عنه- انتظرا، ثم دخل بيته وأحضر سيفه فضرب عنق من لم يرض بحكم الله ورسوله ﷺ، فنزلت هذه الآية تصديقًا لفعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبيانًا لحكم من يُعرض عن حكم الله تعالى.

 

وقد جاء في هذا السياق قول الإمام القرطبي عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ﴾ (الأنعَام: 93) "وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون: ويستدلون على هذا بالخضر؛ وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول – أي استفت قلبك - زندقة وكفر، يقتل قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب؛ فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا ﷺ".

 

وكما ترى فإن القرطبي قد حكم على كل من يعمل بهذا القول بالكفر والزندقة؛ وقد ذكر سبب هذا الحكم، وهو أنه:

 

1. فيه إعراض عن شرع الله عز وجل، وقد بينت سابقًا الدليل على عدم جواز ذلك.

 

2. إن في ذلك اتباعًا للهوى وما تميل إليه الأنفس، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن هذا في حشد كبير من الآيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةً فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ﴾ (ص: 26)، وقوله: ﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ (البقرة: 120)، وقد يصل الأمر إلى أن يجعل الإنسان من هوى نفسه إلهًا، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيۡهِ وَكِيلًا﴾ (الفُرقَان: 42)، وهذا من أخطر صور اتباع الهوى.

 

3. من خلال ما سبق يتبين لنا أن القلوب والنفوس لا تتمكن دائمًا من التمييز بين ما يضر وينفع؛ ذلك أن نفس الإنسان بطبعها تميل إلى الراحة والدعة، وتكره أن تحرم مما تحب ولو كان ضارًّا بها! ألا ترى شربة الخمر والمدخنين كيف يصرون على تعاطيها مدعين أنها تذهب الهم والحزن، رغم ضررها البين الذي أثبته العلم.

 

4. إن ما يترتب على قولهم: "استفت قلبك" وجود أنبياء بعد نبينا محمد ﷺ؛ ذلك أن قائل ذلك يعني أن الله تعالى يُلقي في قلبه ما يلقيه من الأحكام، وهذا مخالف لما نص عليه القرآن الكريم من أن محمدًا ﷺ هو آخر الأنبياء والمرسلين، لقوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمًا﴾ (الأحزَاب: 40).

 

وخلاصة القول: أن استفتاء القلب والركون إليه هو كفر بالله تعالى يُخرج صاحبه من ملة الإسلام نعوذ بالله من ذلك.

الرابط المختصر :