ما المقصود بغياب المعنى وتأثيره على الإنسان؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : قضايا إنسانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 74
  • رقم الاستشارة : 2845
30/09/2025

هل هناك علاقة بين الحداثة وأزمة المعنى التي يعاني منها الإنسان المعاصر؟ وما المقصود بأزمة غياب المعنى؟

الإجابة 30/09/2025

أخي الكريم، أنت تضع يدك في جرح يؤلم الكثير من البشر المعاصرين، وهو انعدام المعنى في حياتهم، وضبابية الغاية في وجودهم، وغياب الهدف من عيشهم، وهي أزمة وجودية كبرى أخذت في الظهور والازدياد مع تنحية الدين والغيب من حياة الإنسان.

 

انعدام المعنى أزمة وجودية

 

والحقيقة -أخي الكريم- أن انعدام المعنى أو غياب المعنى من أخطر وأعمق الأزمات الوجودية التي تقابل الإنسان المعاصر، وربما هذا ما توصلت إليه مبكرًا أبحاث عالم النفس الأميركي البروفيسور "إيرفين يالوم" أن هناك أربعة مخاوف وجودية تواجه البشر وهي (الموت، الحرية، العزلة، انعدام المعنى)، وأن البشر عندما يعانون من واحدة من تلك الأزمات، فإن الفرد يصبح أكثر عرضة للسلوكيات المدمرة بما فيها الأفكار الانتحارية.

 

هذه الأزمة من أكثر الأزمات انتشارًا وتأثيرًا؛ ففي بريطانيا -مثلا- أشارت إحصائية عام 2021م إلى أن أكثر من ربع المواطنين يشعرون بغياب المعنى.

 

أزمة غياب المعنى تظهر بوضوح مع الأزمات الحياتية والمعيشية والاجتماعية والانكسارات والهزائم، حيث يجد الشخص نفسه يواجه تلك الأزمة أو المعضلة بمفرده مجردًا من أية قوة تسانده، والأخطر أنه لا يجد تبريرًا لتقبل تلك الأزمة أو التحدي، أو المحفز لتجاوزه، وعند تلك النقطة تبدو الحياة بلا معنى وتُسدل عليها ستائر قاتمة من القنوط واليأس والإحباط؛ فالإنسان متعطش للمعنى في حياته، فوجود المعنى يسمح باستمرار الحياة على اعتبار أن تستحق.

 

المعنى والحداثة

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعد الحداثة التي تؤمن بالعلم والعقل وتنحي كل ما هو غيبي هي أساس التفكير في كثير من المجتمعات خاصة الغربية، والتي انتقلت تجربتها وأفكارها إلى عدد من المجتمعات والنخب في العالم، فأخذت الحداثةُ العقلَ بعيدًا عن الغيبيات أو "الميتافيزيقا" وأدخلته في تجربة جديدة تفرض عليه أن يحدد معنى لحياته ووجوده، اعتمادًا على رؤيته المادية.

 

ومع دعوات الحداثة بإحلال العقل والعلم مكان الدين والغيب، ظن الحداثيون أنهم سيصلون لتجربة إنسانية مثالية يمكن من خلالها فهم تعقيد الحياة ومواجهة مشكلاتها وأزماتها .

 

لكــــن كانت أزمة المعنى من أوائل الأزمات التي اصطدم بها الحداثيون، وكان من أوائل الإجابات عليها ظهور ما عُرف بـ "الوضعية المنطقية" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ورأت تلك النظرية أن المعنى والمعرفة يرتكزان على جذور منطقية وعلمية؛ رافضين كل ما لا يمكن ملاحظته، أو بمعنى آخر رفض كل ما هو غيبي وغير مرئي، وأن غير ما لا يمكن ملاحظته لا يمكن الاعتماد عليه فكريًّا.

 

وكان "التحقق" هو المبدأ الذي أعلنته تلك الوضعية المنطقية، ويعني "أن كل ما يمكن التحقق منه من خلال الملاحظة المباشرة أو الدليل المنطقي، هو فقط ما يمكن الاعتماد عليه في المعرفة، وبالتالي يكون ذا معنى"، ومن ثم كان الاعتماد على الحواس فقط لتحصيل المعرفة وصولاً إلى المعنى.

 

وظهر في ذلك الوقت حلقتان تطرحان تلك الوضعية المنطقية هما حلقة "برلين" وحلقة "فيينا"، وهما مجموعات من الفلاسفة في العشرينيات والثلاثينيات حاولوا إرساء تلك الفلسفة من خلال تطبيق العلم الوضعي على الفلسفة، ورغم أنها لم تستحوذ على اهتمام عدد كبير من الفلاسفة فإنها كانت تجربة للإجابة عن سؤال المعنى بعيدًا عن الدين واعتمادًا على العقل والعلم.

 

لـــــكن جاءت نظريات ما بعد الحداثة (وهي حركة ثقافية وفكرية وفلسفية ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتشكك في المفاهيم المطلقة، وتؤمن بالتعدد والتنوع) لتعلن أن على كل إنسان أن يبحث عن معنى لحياته، وقال هؤلاء إن الواقع من صنع البشر، وإن العقل ببساطة إحدى الطرق العديدة لاكتشاف حقيقة الذات، وإن كل إنسان حر في اكتشاف معناه الفريد، وكأن الإنسان هو السلطة النهائية على واقعه.

 

ثم جاءت الفلسفة الوجودية، وهي إحدى مدارس ما بعد الحداثة، ورأت حرية الإنسان المطلقة ومسؤوليته الشخصية في تشكيل جوهر حياته ومعنى وجوده في عالم قد يفتقر إلى هدف أو معنى مسبق. والوجوديون لا يرون في العلم والتكنولوجيا مفتاحًا مثاليًّا للوصول إلى المعنى، وهو ما زاد الأمر تعقيدًا وزاد من قلق الإنسان، خاصة أن رؤيتهم لا ترى في الكون معنى جوهريًّا.

 

علم النفس والمعنى

 

والحقيقة أن هذا الاضطراب الفلسفي في البحث عن معنى في ظل الحداثة وما بعدها، نقل ذلك القلق الوجودي في البحث عن معنى للحياة إلى مجال علم النفس، خاصة عندما ازدادت أمراض الاكتئاب وحالات الانتحار والأزمات النفسية، وأخذت أبحاث ودراسات ما سمي بـ"علم النفس الإيجابي" (وهو علم يركز على تحقيق الرفاهية النفسية للإنسان من خلال خلق هدف ومعنى للحياة، مع التركيز على الفضائل والإيجابيات ونقاط القوة وصولاً لتحقيق الرضا عن الحياة) تهتم بعلاج أزمة انعدام المعنى للحياة.

 

روابط ذات صلة:

ماذا يعني مفهوم أزمة وجودية؟

الروحانية اللادينية.. الطمأنينة بلا دين

هل العري أزمة وجودية للإنسان المعاصر؟

هل نحتاج إلى التأمل في حياتنا؟

الحياة الطيبة.. مفهوم للإصلاح الاجتماعي

الرابط المختصر :