الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
324 - رقم الاستشارة : 2217
29/07/2025
ماذا يقصد باللاأدريين ولماذا نرى هذا الانتشار لهؤلاء في التيار الإلحادي؟
اعلم -أخي الكريم- أن الإلحاد يسعى لتغيير مقولاته وأشكاله باستمرار ليخترق عقائد الناس، ويشككهم في الخالق سبحانه وتعالى، أو يدفعهم إلى إنكار وجوده، أو يشككهم في عدله، وكلها طرق تقود إلى أزمة عميقة في الاعتقاد تدفع إلى القطيعة بين الإنسان والإيمان.
ومن التدليس القديم الجديد حول حقيقة الإلحاد هو الـــلاأدريــة، التي يمكن تعريفها بأنها موقف فلسفي يؤكد استحالة معرفة أو إثبات حقائق معينة، على رأسها وجود الخالق سبحانه وتعالى.
ويجب -أخي الكريم- أن تنتبه من أن البعض يتوهم أن الـــلاأدريــة تقف موقفًا وسطًا بين القول بوجود الإله وبين من ينفي وجود الخالق سبحانه وتعالى، حيث تزعم الـــلاأدريــة أنه من المستحيل النفي والإثبات في تلك القضية لعدم توافر القوى والأدوات الإدراكية للوصول إلى أدلة الإثبات أو النفي.
كانت اللاأدرية تجاه العلوم التجريبية تعد وسيلة يستعين بها المشتغل بتلك العلوم لتحصيل المعرفة والعلم، لكن مع أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وتحديدًا في العام 1869م بدأت اللاأدرية كمصطلح وفكرة في الظهور على يد عالم الأحياء الإنجليزي "توماس هنري هكسلي"، مدعيًا أن تلك الكلمة هي اعتراف بجهله إزاء الموضوعات التي يدّعي المؤمنون معرفتها معرفة يقينية، لكن الحقيقة أن قضية الإيمان بالخالق والغيب كانت هي المقصودة بتلك الروح التشكيكة، فهو يرى أن المعتقدات ما دامت غير مدعمة بالأدلة الكافية فإنه يتحتم علينا أن نعلق الحكم حولها سواء بالنفي أو الإثبات.
والحقيقة أن هؤلاء اللاأدريين وجودهم التاريخي سبق التسمية التي أطلقها "هكسلي"، فتلك النزعة الشكوكية والتشكيكية قديمة ترجع إلى الفلسفة اليونانية، ومن أبرز من تحدث عنها الفيلسوف "بيرون" في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو مؤسس مذهب الشك الذي عُرف بـ"البيرووية".
يذهب البعض أن اللاأدرية ظهرت كرد فعل على الدهشة التي طرحها الوجود على الإنسان، ولم يجد لها أجوبة من خلال قدراته الإدراكية والعقلية، وكذلك عدم قدرة الإنسان على إدراك الحكمة من بعض التدابير في الكون مثل وجود الشر أو وقوع الكوارث.
لكن تلك اللاأدرية تم توجيهها إلى جانب الاعتقاد في قضيته الكبرى وهي الإيمان بوجود الله، فحاول اللاأدريون التغطية على إلحادهم من خلال البحث عن أي فوارق بينهم وبين الملحدين، فاللاأدريون يزعمون أنهم يختلفون عن الملحدين، فهم لا يؤمنون بالمرجعيات، ويزعمون أنهم لم يجدوا البرهان الجيد والصحيح لإثبات وجود الخالق، وهذا –حسب قولهم-يجعل موقفهم غامضًا متحفظًا لا يدرون أي سبيل يسلكون في اعتقادهم.
وتذهب اللاأدرية في مجال الاعتقاد أنه من المستحيل إثبات فرضياته بأدواتنا الإدراكية، وترى أن الفرضية التي لا تدعمها أدلة موضوعية قابلة للاختبار ليست ادعاءً علميًّا موضوعيًّا، مما يترك النتائج غير حاسمة.
وقد وصف البعض اللاأدرية بأنها نوع من النفاق الإلحادي، ووصفها آخرون بأنها إلحاد سلبي، على اعتبار أن الملحد السلبي لا يؤمن بوجود إله، أما الملحد الإيجابي فهو الذي ينكر وجود الإله، ومعنى ذلك أن أحدهما عديم الإيمان والآخر يؤمن بالعدم، فاللاأدري إذا سألته عن الله سبحانه وتعالى سيقول: "لا أدري"، أما الملحد فسيقول: أنه غير موجود.
وقد يكون من المفيد استعارة ما قاله اللاهوتي "توما الأكويني" المتوفى (1274م) عن العلاقة بين الأدلة وبين الاعتقاد والإيمان، فيقول: "لمن يؤمن، لا يحتاج إلى تفسير... أما من لا يؤمن، فلا تفسير ممكن"، وهو ما يعني أن الإيمان موقف مبدئي قبل أن يكون نوعًا من البراهين العقلية أو الكونية.
يقول السياسي الأمريكي "روبرت ج. إنغرسول" المتوفى (1899م): "أن اللاأدري يدفعك بعيدًا عن الحقيقة، بعيدًا عن عالم العقل، بعيدًا عن النور، إلى ظلمة التخمين، إلى عالم الأحلام والظلال، ويُجبرك في النهاية على القول إن إيمانك لا أساس له من الصحة".
وقد أشار القرآن الكريم إلى اللاأدرية في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ الجاثية الآية (32)، يشير الإمام الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" إلى معنى شامل لمذهب هؤلاء اللاأدريين، فيذكر أن الآية الكريمة جمعت القاطعين بعدم وجود البعث، ومذهب المتشككيين في البعث لضعفهم عن مواجهة الأدلة التي أتى بها النبي ﷺ، يقول "الرازي" عن هؤلاء اللاأدريين المتشككيين إنهم أشر من المنكرين؛ لأن هؤلاء صمموا على الإنكار والاستهزاء معًا.