مسؤولية القدوة في الإصلاح الاجتماعي

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : قضايا إنسانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 121
  • رقم الاستشارة : 2381
16/08/2025

هل القدوة ضرورة في عملية الإصلاح الاجتماعي؟ وهل على القدوات مسؤولية أخلاقية تجاه مجتمعاتهم؟

الإجابة 16/08/2025

سؤالكم يلمس أزمة حقيقة في التربية وفي الإصلاح الاجتماعي، تتمثل في غياب القدوات التي تهدي الناس بأفعالها وسلوكها ونهجها في الحياة؛ فالقدوة من أفضل وسائل التربية والإلهام الأخلاقي والسلوكي.

 

تخبرنا تجارب الحياة أن بناء قدوات، ليست عملية بسيطة، ولكن تحتاج إلى زمن غير قصير تُشيد فيه القدوة مكانتها في عقول الناس ووعيهم، ثم ينتقل هذا الوعي إلى مرحلة الاقتداء والاهتداء بأفعالها وأقوالها وسلوكها؛ فالقدوة صناعة ذات مدى زمني طويل، كما أن عدد الأشخاص الذين يصلحون كقدوات في المجتمع هم عدد محدود.

 

القدوة ذات أهمية كبيرة في الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، ولهذا كانت حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يبعث الرسل من البشر ليكونوا محلا للاقتداء والاهتداء؛ فالرسل إذا كانوا ملائكة فلن يكونوا في محل القدوات، يقول الإمام القرطبي في ذلك: "كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى الرسولَ إلى البشر ملكًا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له، ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة".

 

القدوة في اللغة هي الاقتداء بالغير ومتابعته والتأسي به، وهي التقليد والمحاكاة لشخص ما، يُتخذ أنموذجًا، ولذلك كانت الحكمة تقول: "عظ الناس بفِعلك، ولا تعظهم بقولك"، و"القدوة الحسنة خير من النصيحة"، وكان من وصايا الصحابي الجليل "عتبة بن سفيان": "ليكن أول إصلاحك لولدك: إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركت".

 

خبرة التاريخ تقول إن أساس أي إصلاح اجتماعي يرتكز على الروح والقوة الدافعة للعمل، أما الأساس الثاني فهو القدوة، ولذا كان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يحذّر من أن وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل؛ لأن ذنبه ومعصيته ممتدة، إذ تقود معصيته إلى تدمير قيمة الدين ذاته، وذلك لأنه أفقد الدين القدوة البشرية الحاملة لقيمه وتعاليمه، ولهذا كان الإمام "علي" -رضي الله عنه- يقول: "قُصم ظهر رجلان؛ عالم متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغر الناس بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه"، وكلا الشخصين اللذين حذر منهما الإمام علي -رضي الله عنه- هما من القدوات السيئة في التعبد والعلم، أي في العزيمة الروحية أو في العلم الهادي إلى النفع والخير .

 

كان رواد التربية والعارفون في التجربة الإسلامية يحرصون على بناء القدوة؛ لأنها من أهم وسائل الإصلاح السلوكي والاجتماعي، ونجد "ابن عطاء الله السكندري": يقول "لا تصحب من لا يُنهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله"؛ فالتلازم بين الحال والمقال، أو بين العلم والعمل ضرورة من ضرورات الإصلاح الاجتماعي، والحكمة تقول: "خيبات الأمل تكون أسوأ عندما تكون ناجمة عن الأشخاص الذين يجب أن يكونوا قدوة لك"؛ فالقدوة السيئة أثرها الإفسادي والتدميري ممتد، وقادر على إنتاج آثاره الضارة باستمرار، والأدهى أن القدوة السيئة يتم توارثها بين الأجيال.

 

والقدوة تقوم بوظيفتين بحسب علم النفس:

 

الأولى: كشف العواقب أو المكافآت المحتملة لسلوك معين للآخرين، بما في ذلك الفوائد المباشرة (المادية مثلاً) أو غير المباشرة، كالرضا أو الفخر أو الثناء العلني.

 

الثانية: ممارسة تأثير أو سيطرة كبيرة على سلوك الآخرين.

 

ولهذا كان "جون وودن" أحد الشخصيات ذات التأثير في المجتمع الأمريكي يقول: "أن تكون نموذجًا يحتذى به هو أقوى أشكال التعليم"، وكان "فرانسيس بيكون" وهو أحد الشخصيات المؤثرة في الفكر الغربي يقول: "من يعطي النصيحة يبني بيد واحدة، ومن يعطي المشورة والمثال الجيد يبني بكليهما، لكن الذي يعطي عتابًا جيدًا ومثالًا سيئًا، يبني بيدٍ ويهدم باليد الأخرى".

 

وأخيرًا، تقول الحكمة: "إذا كنت لا تستطيع أن تكون مثالًا جيدًا، فعليك فقط أن تكون تحذيرًا مروعًا".

الرابط المختصر :