الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
115 - رقم الاستشارة : 2540
28/08/2025
هل الموبايل والإنترنت أثرت فينا كبشر وهل أثرت في عاداتنا وسلوكياتنا وأخلاقنا هل أصبحنا أقل أخلاقا من ذي قبل؟
أخي الكريم، أشكركم على هذا السؤال الذي يناقش أزمة إنسانية عالمية، فالرقمية أحدثت تحولات عميقة في الشخصية الإنسانية أخلاقًا وسلوكًا وعادات.
تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن حوالي 5.56 مليار إنسان يستخدمون الإنترنت، وهؤلاء يشكلون 68.7% من سكان الأرض، وهناك ستة مليارات خط موبايل يستخدمها أربعة مليارات إنسان، أما رواد مواقع التواصل الاجتماعي فحوالي 5.24 مليار شخص، وهو رقم ضخم للغاية، وغالبية هؤلاء يتأثرون بتلك المواقع ويؤثرون فيها.
وقد تشكلت ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية، وهي وجود تشابه كبير في الأخلاق والسلوك بين الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة الفئات الأصغر سنًّا، فهؤلاء هم من تفتح وعيهم وأعينهم على الرقمية، ولم يعرفوا غير الرقمية وسيلة للتواصل والتفاعل؛ بل والتلقي الأخلاقي في كثير من الأحيان.
أزمة الرقمية الأخلاقية أنها تجعل الشخص في مواجهة مع ضميره وأخلاقه، فالخصوصية شديدة في عالم الرقمية، فالموبايل يخص الفرد ولا يطلع عليه أحد إلا صاحبه، كما أن الحسابات على مواقع الرقمية شديدة الخصوصية، ولا يستطيع أحد الدخول عليها إلا صاحب الحساب نفسه بكلمة مرور سرية، فالشخص يختلي بهاتفه، الذي يمنح الدخول السريع والواسع إلى العالم الافتراضي، وليس عليه رقيب إلا ضميره.
مجالات تأثير الرقمية على الأخلاق
* زيادة استهلاك المواد الإباحية بشكل مرعب، تشير الإحصاءات إلى أن هناك أكثر من (4) ملايين موقع إباحي على الإنترنت، وأن قربة الـ40% من التحميل من على الإنترنت إنما هو لمواد جنسية، وأن المواقع الإباحية هي الأعلى دخولاً عالميًّا، وان أحد المواقع الإباحية حقق 5.25 مليار زيارة خلال شهر واحد، وأن ثلثي من يشاهدون المواد الإباحية على الإنترنت هم ذكور، أما الثلث فمن الإناث.
ودلالات تلك الإحصاءات أن الجنس هو الأعلى مشاهدة وتأثيرًا في الفضاء الرقمي، وأن الطاقات المهدرة من تلك المشاهدات الآثمة لها انعكاساتها الاجتماعية والنفسية والصحية، ناهيك عن الجرائم المرتبطة بالجنس في العالم الافتراضي من ابتزاز، واغتصاب، وتجارة للرقيق الأبيض.
* تنامي النزعة الاستهلاكية: الرقمية أصبحت أكبر مروج للمتع والملذات في عالم الملابس والطعام الموضات، فهي تخاطب الغرائز والحاجات ببراعة، وقادرة على مداعبة الخيال من خلال الصور والفيديوهات البراقة التي تُعرض كل لحظة وتدعو إلى الاستهلاك باعتباره أهم رمز للحياة المعاصرة.
وقد ظهر ما يسمى بـ"الاستهلاك الرقمي"، ويعني استهلاك السلع والخدمات التي تسهلها التقنيات الرقمية، والذي أحدث تحولاً في عالم التجارة والتسوق، فأصبحت تفاعلات الكثير من البشر الاستهلاكية والتسويقية رقمية تجري في هذا الفضاء، وغاب التواصل الإنساني المباشر إلا قليلاً.
يؤكد الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" أن التكنولوجيا تحولت إلى أيديولوجيا، والاستهلاك من أهم مرتكزاتها، فكل شيء قابل للاستهلاك، وهو ما يفرض خلق رغبات دائمة ومصطنعة لهذا الانسان المستهلك، فزادت الشراهة في مجال الاستهلاك الرقمي، الذي جعل الإنسان أسيرًا للحظة الراهنة التي يشاهدها، ويغوص في عالمها الافتراضي.
في كتابه "دستور الأخلاق في القرآن" للدكتور محمد عبد الله دراز، الصادر عام 1950م، لمس هذا الانحراف نحو تحويل الحياة إلى الاستهلاك، وانعكاس ذلك على الأخلاق، فقال: "إن الصراع من أجل الرفاهية لا يبدو أنه يقترب من نهايته؛ بل إنه يتزايد بنسب متضاعفة، فكل نقطة تقدم، تثير الشهية إلى نقطة تقدم أخرى أعلى منها، وهكذا بحيث يمكننا القول بأننا بصفة عامة نكرس وقتًا أطول للبحث عن أسباب راحتنا، أكثر من الوقت الذي نستمتع فيه بالراحة. ولكثرة انهماكنا في هذا الاتجاه فإن ما كان مجرد وسيلة أصبح غاية حقيقية نجري وراءها. مما يجعلنا نقرر أن هذا الحرص الجامح على السعادة المادية يعتبر انحرافًا من الضمير في عصرنا الحاضر".
* العبودية الرقمية: أصبح الإنسان أسيرًا للشاشة لا يستطيع أن يستغني عنها، فنشأت عبودية جديدة، لها أخلاقها التي ترسخها، ويلاحظ مع الرقمية أنه توارت عن الكثير من الناس ثقافة الستر، وأخلاقياته، فأصبح التعري أمام كاميرا المحمول إحدى وسائل الدخل السريع والكبير.
ولعلنا مع الرقمية نتذكر المقولة العظيمة للإمام "ابن القيم الجوزية" عندما قال:" فلا تقدم لله ما يكره، ثم تطلب منه ما تحب".