الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
93 - رقم الاستشارة : 2645
09/09/2025
كيف يحقق الدين طمأنينة الإنسان وسعادته؟ ما هي الأفكار التي يبثها الدين في عقل ووجدان الإنسان وضميره فيغير نظرة الإنسان للحياة؟ وهل العلمانية قادرة على القيام بهذا الدور الديني أم العلمانية بفكرها المادي قاصرة وعاجزة في هذا المجال؟
أشكركم أخي الكريم على طرح ذلك السؤال للنقاش، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود، وقضايا الدين والتدين تفرض نفسها في غالبية المجتمعات في العالم، وليس في العالم الإسلامي فقط، وليس ما يتعلق بالدين الإسلامي، ولذلك وصفت العقود الأخيرة بأنها عقود صحوة الأديان.
والحقيقة أن صحوة الأديان لها أسباب متعددة، لكن ما يشغلنا حاليا هو الأزمة التي يشهدها الفكر العلماني غير الديني والذي بات غير قادر على تقديم إجابات للقضايا الكبرى للإنسان المعاصر، في ظل اقتصاره على النظر للحياة والوجود من منظور مادي، لا يرى في الإنسان إلا ذلك الهيكل الترابي وما يرتبط به من حاجات وملذات، أما الروح وانشغالاتها وقضاياها، فإن الفكر المادي فشل فشلاً كبيرًا في بعث أي طمأنة لتلك الأرواح القلقة والقلوب المرتجفة.
من الذات إلى الوجود
أما ما يتعلق بسؤالكم حول كيفية تحقيق الدين لطمأنينة النفس وسعادة الإنسان، فإن مفهوم الدين الحق في عمقه يأخذ الإنسان من ضيق ذاته إلى آفاق أرحب وفضاءات أوسع، يُبصر فيها الكونَ والوجودَ بصورة مختلفة، فيرى الإنسان نفسه قطرة في محيط كبير متلاطم، ويرى همومه أقل، ويدرك أن هناك قوة تتجاوز القدرات الإنسانية، وهذه القوة هي التي تحرك الكون، وأن إيمانه بها واعتماده عليها، يوفر له طمأنينة كبيرة، ويمنحه قوة تفوق قوته وإمكاناته للتغلب على الشدائد والصعاب.
ولعل هذا الإدراك أو الإيمان هو ما يجعل الإنسان أقوى في مواجهة تقلبات الحياة، ومواجهة أي قوة باطشة، وهذا الإدراك لا يمنحه الفكر المادي، الذي لا يؤمن إلا بموازين القوة، ويقيس القوة بما يمتلكه الإنسان أو المجتمع من موارد مادية فقط.
الدين يمنح الإنسان المعنى لحياته ووجوده، وهذا المعني هو ما يغري الإنسان بمواصلة الحياة بطاقة وعنفوان وإقبال على الحياة، وغياب المعنى هو قاصمة الظهر للإنسان، فهو ما يفقد الإنسان سعادته وبهجته، ويجعله حبيس المادة والشهوة واللذة.
تنظيم الحياة: تشير دراسات نفسية إلى أن الأشخاص الذين لديهم شعور ديني قوي ويمارسون شعائره بانتظام، يكونون أكثر سعادة، لأنهم قادرون على تنظيم حياتهم، وهناك دراسة أشارت إلى أن الدين يبث شعورًا في أعماق الإنسان أن الحياة ليست بهذا التعقيد، وأن هناك طاقات من الأمل والرجاء موصولة بقوة ذلك الإله الذي لا يستحيل عليه شيء، هذا الشعور والاعتقاد من أهم الحواجز لمواجهة اليأس والإحباط.
المعيارية والسعادة
الدين يضع نظامًا معياريًّا: من مميزات الدين أنه يضع نظامًا معياريًّا لحياة الإنسان وسلوكه وعلاقاته، وهذا ما يخفف من حدة تأثيرات الفوضوية واللامعيارية، وفي أغلب الأحيان فإن تلك المعايير تكون متجاوزة لذات الإنسان، أي أنه يقيس سلوكه على قيم خارج ذاته، أي لا ترتبط بلذته ومنفعته.
القدرة على التكيف: من أهم مميزات الدين التي يمنحها للإنسان، هي القدرة على التكيف مع الأزمات والشدائد وتقلبات الحياة، فالإنسان المؤمن ينظر للمصائب من منظور يختلف عن الإنسان المادي، فتخف وطأتها على النفس، وتجعل الإنسان المؤمن يتكيف معها بحثًا عن مخرج أو باب للنفع فيها، وحتى ولو نظر إليها على أنها عقاب، فهو يرى أنه أخطأ ونال جزاءه، وربما يكون ذلك مؤلمًا على النفس، لكنه يساهم في تكيف الإنسان.
الدين يشجع على التواصل الاجتماعي والابتعاد عن الانعزالية وينمي الكثير من المشاعر الإيجابية، وهذا يخفض من تركيز الإنسان على أزماته ومشاكله والعقبات التي تعترض طريقه، وهذا يمنع من الانغماس في دوامة الأفكار السلبية والسوداوية، وهنا أتذكر قوله تعالى في سورة "طـه" الآية (124) ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾.
يقول العلماء والضنك أصله الضيق والشدة، ويعلل الإمام الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" سبب ذلك الضنك بقوله: "لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشًا طيبًا، والكافر بالله يكون حريصًا على الدنيا طالبًا للزيادة أبدًا فعيشته ضنك وحالته مظلمة، وأيضا فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره".
يقول الإمام أبو بكر الشبلي "أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه".