الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
73 - رقم الاستشارة : 2691
15/09/2025
هل الشيخوخة الزاحفة على الإنسان مع تقدم الزمن تطرح أسئلة وجودية حول معنى الحياة والمصير؟ وهل لها أبعاد تخلق أزمات للفلسفة المادية؟
أخي الكريم، الشيخوخة ليست مرحلة يعيش أوجاعها من تقدم به العمر فقط، ولكنها مرحلة تطرح تساؤلات وجودية كبرى حول المصير وما بعد الموت، وتقييمًا لرحلة الحياة وهل كانت تستدعي كل هذا العناء والصراع، وتساؤلات حول الخلود، وتساؤلات حول الخالق سبحانه وتعالى، وكل تلك التساؤلات بعيدة عن الفكر المادي الذي لا يرى في الوجود إلا المادة، وأن فناءها هو فناء للإنسان.
ومن ناحية أخرى ونظرًا لمبدأ النفعية الذي يرتكز عليه الفكر المادي فإن الشيخوخة ليست مجالاً للعبرة، ولكن تعني أشخاصًا يستهلكون ولا ينتجون، يتألمون ويحتاجون إلى من يساعدهم، وليسوا محلاً للإكرام والرعاية وأخذ العبرة والعظة من سرعة مرور الأيام وانتقال الإنسان من الضعف إلى القوة ثم إلى الضعف والفناء مرة أخرى.
الطب لا قيمة له
الشيخوخة لحظة تأمل عميقة للجميع، فعندها يصبح "الطب لا قيمة له"، فتداعيات الجسد أكبر من قدرة الطبيب على العلاج، ولذا فإن كثيرًا من الأطباء لا يرغبون التخصص في طب الشيخوخة؛ لأن لحظة الفناء لن تمنعها تلك الأدوية، ومن ثم سيقف الإنسان أمام الدرس الوجودي الأكبر {كل من عليها فان} فالحياة لها نهاية، والموت لا يُقهر، وإبعاد الشيخوخة عن الإنسان غير ممكن، وكل تلك الدلائل تصدم الفكر المادي في تصوراته ومقولاته، وتثبت له أن هناك قوة تدير الكون، وتضع ناموسًا لهذا الكون، ولا أحد يخرج عن هيمنتها وقدرتها.
هذه الدلائل لا يريد الفكر المادي أن يتأملها في الشيخوخة، لأن التفكر فيها يطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، وطرح الأسئلة يقتضي وجود إجابات، وتلك الأجوبة لن تستطيع المادية أن تقترب منها، وهذا ما أكده الطبيب الأمريكي "أتول غواندي" في كتابه "لأن الإنسان فان" أن "البيولوجيا تفرض قيودها على الإنسان، ولا مهرب منها، وكلما تقدم الطب والعلم في دراسة الخلايا أيقن بحقيقة الفناء، وأن الموت لا يمكن مدافعته".
الموت الرحيم
وما دام الإنسان يحيا ضمن حدود وقيود لا مفر منها، فإن دور الطب بمؤسساته يقتصر على مساعدة الناس على الحياة والتعامل مع تلك القيود؛ فجميع أجهزة الإنسان تستنفد رصيدها في الحياة، وبالتالي تصبح تكلفة قبول الأمر الواقع أقل بكثير من المحاولات اليائسة لمغالبته.
وفي تلك المرحلة تحتاج الشيخوخة إلى العطف والرحمة والرعاية وليس العلاج، وهو مطلب من الصعب على المادية أن تقدمه، والبديل الذي تطرحه المادية لتقليل تكلفة الشيخوخة هو "المـــوت الرحيم" أي التدخل بإنهاء حياة من يرغب ممن وصل إلى الشيخوخة أو المصاب بمرض ميئوس من علاجه.
الشيخوخة فلسفة للحياة
مشكلة الشيخوخة في اللحظة الراهنة أنها باتت أكثر وضوحًا، تشير الإحصاءات إلى أن الشيخوخة باتت تشكل ما يقرب من 20% من السكان في بعض المجتمعات الغربية بعد أن كانت لا تزيد عن 2% في السابق، وفي دولة مثل الصين هناك أكثر من مائة مليون في سن الشيخوخة، ومعنى هذا أن طرح الأسئلة الوجودية على الفكر المادي أصبح أكثر كثافة وإلحاحًا.
في مطلع القرن الماضي وفي العام 1903 أكد عالم الأحياء الروسي "إيليا ميتشنيكوف" في كتابه "طبيعة الإنسان" "أنه من المحتمل جدًّا أن الدراسة العلمية للشيخوخة والموت، وهما فرعان من العلوم يمكن تسميتهما علم الشيخوخة وعلم الموت، ستحدث تعديلًا كبيرًا خلال الفترة الأخيرة من الحياة"، فعلم الشيخوخة مقترن بالموت، والأديان تعطي اهتمامًا كبيرًا للموت وما بعد الموت، على اعتبار أن الحياة اختبار، والنفاذ إلى نتيجته لا يتم إلا من خلال الموت.
يذهب بعض المفكرين أن علم الشيخوخة هو علم فلسفة الحياة، ومن ثم اهتم الفلاسفة منذ القِدم بالشيخوخة، ووجدت برديات فرعونية تتحدث عن الشيخوخة، كما أن الفيلسوف أرسطو تحدث عنها في رسالته بعنوان "في الشبيبة والشيخوخة وفي الحياة والموت"، وحاول تشبيه الشيخوخة بالنار، وأن تلك النار إذا انطفأت من نفسها مات الشخص من الشيخوخة، وإذا انطفأت من الخارج مات الشخص موتة عنيفة، أما الفيلسوف اليوناني "شيشرون" فقال إن أروع ما في الشيخوخة هو ازدراء الموت، فالشيخوخة هي الفعل الأخير للحياة.
لكن الحقيقة أن ما يضمر مع الشيخوخة بجانب الأعضاء والقوة هو الإحساس والشغف بالمستقبل، وهنا تنظر الشيخوخة الواعية إلى المستقبل ليس برؤية مادية ولكن بتساؤلات وجودية حول طبيعة النهاية والمصير ذلك السؤال المجهول في عالم المادة.
روابط ذات صلة: