الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
138 - رقم الاستشارة : 2591
03/09/2025
نلاحظ تراجعًا في الأذواق، سواء في الملبس أو الكلام أو الفنون، وسؤالي هل هناك علاقة بين انتشار الفكر المادي وتردي الذوق في حياتنا؟
منذ عدة سنوات نشر الكاتب البريطاني "جورج مونبيوت" مقالة في الجارديان البريطانية بعنوان "المادية: نظام يأكلنا من الداخل إلى الخارج"، متحدثًا عن ظاهرة الاستهلاك الترفي في ظل المادية، واصفًا هؤلاء الشباب الصغار الذين ينفقون الكثير من الأموال على الشراء بأنهم "فظون، ووقحون، ومبتذلون".
وأشار "مونبيوت" إلى أن مجموعة واسعة من الأبحاث النفسية تدعم فكرة أن المادية سمة تصيب الأغنياء والفقراء على حد سواء، فهناك انشغال بالممتلكات والصورة الاجتماعية التي تُبرزها، وأن تلك الروح المادية مدمرة نفسيًّا واجتماعيًّا، لأنها تحطم السعادة وراحة البال وتؤدي إلى انهيار العلاقات.
لكـــــن المهم هو ما أكدته الأبحاث في وجود ترابط بين المادية وقلة التعاطف، فكلما زادت المادية تراجع التعاطف، ومع تراجعه يقل اهتمام الشخص بمشاعر الآخرين، فتغيب الكلمات الرقيقة والمجاملات الإنسانية وتختفي لغة التراحم، ليصبح هذا الشخص المادي فجًّا، كأنما وضعت صخرة قاسية في قلبه، أما كلماته فهي كالحجارة يقذف بها الآخرين.
المادية تغذي التنافسية والصراع، وهو ما يجعل حركة الإنسان غاية في الأنانية وبلا رحمة نظرًا لتراجع إحساسه بالمسؤولية الاجتماعية، ووجدت دراسات أن المادية تغذي الانعزالية، والانعزال يجعل الإنسان مرتبطًا بممتلكاته المادية مبتعدًا عن كل ما هو إنساني، ومن هنا فالمادية تأكلنا من الداخل والخارج معًا، وفي ظل هذا التراجع الإنساني لصالح كل ما هو مادي يأخذ الذوق في التلاشي تدريجيًّا حتى يختفي.
الذوق مشاعر وسلوك
الذوق هو خليط من المشاعر والسلوكيات ومراعاة الآداب بالقول والفعل المناسب أداء وامتناعًا، ومعرفة ما هو لائق ومناسب في العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
هذا الذوق ذو أهمية في تقوية العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فهو يخرج الفرد من انعزاله وأنانيته وقسوته إلى آفاق من التراحم والتعاطف والبحث عن كل ما هو طيب وجميل في القول والفعل، حتى يصير سجية في الشخص بلا تكلف ولا عنت.
وجوهر الذوق هو مراعاة الآخر، وتجنب الإساءة إليه أو إيذائه، ومن ثم فإن منبع الذوق من داخل الإنسان انطلاقًا من المعايير الأخلاقية التي تحكم سلوكه.
لكــــن إذا تحول ذلك الداخل الإنساني إلى كائن شره للاستهلاك والتلذذ، وإذا غابت عن الداخل المعايير الأخلاقية، فإن المادية هي التي تتحكم وتملي سلوكها، وهو سلوك قائم على المنفعة واللذة، وفي الحياة تجد بعض هؤلاء الماديين يتمتعون بذوق عال في كلامهم إذا كانوا موظفين في العلاقات العامة أو مندوبي مبيعات، أو يرغبون في الحصول على شيء، ثم تجد بعد انقضاء تلك المنفعة أو اللذة فإنه يتحول إلى إنسان آخر لا يعرف الذوق ولا يراعي الآخرين في سلوكه وكلامه.
في ظل المادية يصبح الذوق مرتبطًا بالملابس والطعام والعطور والموضات، وهو ما أبعد الذوق عن مجاله الأساسي وهو العلاقات الإنسانية.
غياب المعني: يلاحظ أن غياب المعنى هو إحدى الأزمات التي يعاني منها الفكر المادي وكما يقول الكاتب الفرنسي في القرن السابع عشر "فرانسوا دو لاروش": "كلما تتدهور شخصيتنا، يتدهور أيضًا ذوقنا"، فالمادية التي دعمت العلمنة، يعتبرها البعض فلسفة زائفة، على اعتبار أن أي فلسفة لا تُعنى بإثراء المجتمع وتطويره تعد فلسفة قاصرة، بل فلسفة معادية للإنسان ورفاهيته.
وتأتي العدمية، التي ترفض القيم وترى أنه لا أساس لها، ولا تؤمن بشيء، وترى أن وجودنا لا غاية له، هذه الفلسفة هي أحد تجليات الحداثة، ومعهما تدنت الأذواق في كل شيء، فطفت الأذواق السيئة على السطح، وفي العصر الرقمي كان الإحساس بخطر الأذواق المتدنية عميقًا، في ملايين المواقع الإباحية ومئات الملايين من الصور والفيديوهات ذات المحتوى الفاحش التي تبث كل يوم، وتبث ما هو قبيح وفج، وزادت الرغبة في التلذذ بالقبح وظهرت موضات مقززة للغاية من السراويل الممزقة، والملابس الفاضحة والأغاني الفاحشة والموسيقى الصاخبة.
يقول الأديب الفرنسي "تشارلز سانت بوف": "الذوق السيئ يؤدي إلى الجريمة"، وذلك لأن الأشخاص الذين يفتقدون الذوق، يفتقدون الحكم على الأشياء من خلال معيارية الخير والشر، فصار الذوق السيئ من مسببات الجريمة.