هل العري أزمة وجودية للإنسان المعاصر؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : قضايا إنسانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 70
  • رقم الاستشارة : 2745
21/09/2025

هل العري أزمة وجودية عميقة للإنسان المعاصر، فمع كل ابتعاد عن الفطرة ينغمس الإنسان في الشهوة واللذة لإسكات صوت الفطرة في أعماقه، وسؤالي ما مدى ارتباط العري بأزمة الإنسان الوجودية تلك الأزمة التي تطرح أسئلة كبرى عن المصير والغاية والمعنى؟

الإجابة 21/09/2025

أخي الكريم، الإنسان المعاصر يعاني من أزمات معقدة مركبة، فكل ابتعاد عن الفطرة له ضريبته القاسية وثمنه الذي لا بد من دفعه، والعري وهتك الستر له ثمنه الباهظ على الإنسان ذاته وعلى المجتمع.

 

الحداثة والعري

 

والحقيقة أن العري له تاريخ قديم في حياة الإنسان؛ فالإنسان قبل الحضارة كان يعيش بلا ملابس في أغلب الأحيان، حتى في فترات التحضر كان العري حاضرًا عند اليونان والإغريق في تماثيلهم ومنحوتاتهم التي أثرت في فناني عصر النهضة الأوروبي الذي بدأت إرهاصاته في القرن الرابع عشر الميلادي وتتابع طيلة ثلاثة قرون.

 

ويلاحظ أنه في عصر النهضة الأوروبية حاول فنانوه استحضار العري في أعمالهم الفنية من نحت ورسم، حتى أصبح العري معيارًا لعبقرية الفنان وإبداعه.

 

أما التعري في العصر الحديث فيمكن النظر إليه مع بدء الحداثة التي أعلت من شأن العقل والعلم بما يجعله يقترب من أن يكون مطلقًا، ورفضت الكثير من المرجعية الدينية كمعيار للأخلاق والسلوك، ومن ثم أخذ العري يتحرك على أرضية مهيأة لقبوله ثقافيًّا واجتماعيًّا.

 

ويمكن رصد البدايات الأولى لتيار التعري في ألمانيا، ففي العام 1894م كتب الناقد الألماني "هاينريش بودور" مقالاً عن التعري، معتبرًا إياه صرخة انتصار للمستقبل، وتبع ذلك ظهور حركة في ألمانيا تدعو للتعري باعتباره انسجامًا مع الطبيعة، وخطوة على طريق تحرير الذات من قيودها، وأن العري شفاء من بعض الأمراض الجلدية.

 

ذاع صيت تلك الدعوات، وتشير إحصاءات إلى أنه مع مطلع القرن العشرين وجد في ألمانيا أكثر من (200) ناد وجمعية تروج للعري، وفي العام 1902م صاغ "هاينريش" مصطلح "ثقافة العري"، وبعد أربع سنوات أخرج كتابًا من ثلاثة مجلدات ربط فيه بين العري والإصلاح الاجتماعي، وفي تلك الفترة ظهرت أول مجلة للعري.

 

وسعى دعاة التعري لنزع الصفة الجنسية عن الجسد العاري، وربط مفهوم الإثارة بالحضارة وليس بالعري في حد ذاته كتعبير عن البدائية وعدم التحضر، وقد تأثرت بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية بحركة العراة الألمانية.

 

أما علاقة العري بالحداثة فكانت متناقضة، فبينما انتقد بعض دعاة العري الحداثة لماديتها وأنها تفصل الإنسان عن الطبيعة، إلا أن الواقع يؤكد أن العلوم والفنون والأفكار والفلسفات المختلفة التي نشأت مع الحداثة، مثل: علم النفس والنسوية، أيد بعضها العري، لكن الأخطر هو أنها أنتجت أفكارًا سمحت بالقبول الاجتماعي للعري في الواقع الاجتماعي، ومن تلك الأفكار التركيز المفرط على الحريات الشخصية، وتعميق الفردانية والذاتية.

 

وتشير بعض الدراسات إلى أن بعض فناني الحداثة استفادوا من العري تجاريًّا لترويج أعمالهم، فساهمت أعمالهم في توسيع القبول الاجتماعي للعري خاصة عري النساء.

 

العري أزمة وجودية

 

في الجزء الثاني من كتابه "دين الحياء" يؤكد الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن" على فطرية الستر في الإنسان، وأن الانكشاف سوء لم يجبل الإنسان عليه، فيقول: "إن الأصل في الإنسان أنه كائن مستور غير مكشوف حيًّا كان أو ميتًا"، لكن "حضارة الفُــرجة" كما يسميها أصبحت عاشقة للتكشف، فيقول: "فلم تعد هناك حدود للستر الجسدي والنفسي، وأصبحت الوسائط مخزنًا للتكشف والبوح بالأسرار التي تجد سبيلها اليسير إلى شبكات التواصل الاجتماعي لتصير فضائحية تستقطب الناظرين، لتصبح العورة المكشوفة على الشاشة معيارًا للوجود والشهرة، يعشق بها الإنسان ذاته ويستهوي بها الآخرين، والتكشف لا يتبدى بوضوح إلا في الجنس أو العنف".

 

لكن الأخطر فيما تحدث عنه "طـه عبد الرحمن" أن التكشف وهتك الأستار، ليس مسألة سلوكية فحسب، ولكنه بات مسألة وجودية، فيقول: "فصار الوجود في التكشف والعدم في التستر، والإنسان المعاصر ليس مخيرًا في تكشفه ولكنه مجبر، لأنه في قراره نفسه يشعر بأنه في حكم العدم لو أنه حفظ باطنه أو كتم سره أو ستر عورته".

 

ومع كثافة التكشف، وهتك الأستار غابت الروح، وأصبح الجسد بماديته وشهواته هو الحاضر وهو الفاعل وهو المحرك للسلوك الإنساني، الذي بات مغرمًا بكشف العورة والتكسب من السوءة، والمغرم بالفضيحة والساعي إليها بكل جهده وطاقته.

 

والحقيقة إن إحياء ثقافة الستر يكون من خلال معالجة أفكار الإنسان العميقة في ذاته، إقناعًا له ووصولاً به درجة اليقين أن باطنه مكشوف أمام خالقه، وأن تعرية الجسد سبقتها تعرية في الروح.

 

روابط ذات صلة:

هل غذت الرقمية روح التكشف والتعري؟

لماذا غابت ثقافة الستر في العالم الافتراضي؟

كيف أثرت ثقافة الصورة على أخلاقنا؟

ما علاقة الرقمية بانتشار الدياثة؟

الرابط المختصر :