الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
26 - رقم الاستشارة : 2003
19/05/2025
البحث عن الجمال أصبح هما بشريا خاصة للمرأة، فهل غيرت الحداثة معايير الجمال نحو معايير غير قابلة للتحقيق؟ وما الشقاء الذي تحقق من جراء الجري وراء هذا السراب؟
في كتاب "خرافة الجمال" للأمريكية "نعومي وولف" كلام مهم عن تغير معايير الجمال في المجتمع الحديث؛ فمعايير الجمال الصارمة باتت تحاصر المرأة من كل اتجاه، وهذه المعايير الخاصة بالوجه والجسد، أقنعت المرأة أن مكانتها لا تتحقق إلا بالتوافق مع تلك المعايير، وهو ما أوجد أزمات نفسية واجتماعية كبيرة.
أشارت "وولف" إلى أن المرأة قبل الثورة الصناعية كانت تتبنى معايير مختلفة للجمال؛ فقيمتها الاجتماعية كانت تتحدد من خلال قدرتها على تأدية الأعمال المنزلية، وخصوبتها، ومهاراتها في تربية الأبناء، وقوتها البدنية.
لـــــكن مع الحداثة تغيرت الأمور، فأصبح للجمال معاييره التي تحاصر المرأة في كل مكان، ونتج عن ذلك نشوء صناعات تلبي هذه المعايير، وتحرض على شرائها واستخدامها، فتم تغيير الوجه، لونًا وملامح ونضارة، من خلال عمليات التجميل ومستحضرات العناية بالبشرة، أما الجسد فتم تغيير تضاريسه من خلال الجراحات والحميات الغذائية والأجهزة الرياضية.
ومن الضروري عدم الاستهانة بتلك المعايير التي فرضتها الحداثة للجمال، لصعوبة تحقيقها إلا في قلة قليلة للغاية من النساء، أما الباقي فيجري وراء السراب والحلم الذي لن يتحقق، أو يعاني من التعاسة والاكتئاب وقلة احترام الذات.
تشير إحدى الدراسات الغربية إلى أن الرأسمالية التقطت تلك الحيرة النسائية الخاصة بمعايير الجمال، واستغلت الإعلام لتأكيد ذلك القلق سعيًّا لإفقاد النساء أمنهن النفسي والروحي، حتى يُكنّ سوقًا رائجة لمنتجات العناية بالبشرة ومساحيق التجميل.
والأدهى أن معايير الجمال ارتبطت بالإنسان الغربي، ولعل ذلك يرجع إلى الروح الاستعمارية التي تركها الغرب في مستعمراته السابقة، فرغم رحيل هذا الاستعمار ظلت معاييره هي الحاكمة للجمال، وأصبح البياض هو المحدد الأساسي للجمال، رغم أن علماء الأنثروبولوجي يؤكدون ألا يوجد معايير للجمال يمكن تعميمها على البشر، فكل ثقافة ومجتمع له معاييره الجمالية.
أشارت تلك الدراسة إلى أن 90% من النساء غير راضيات عن أجسادهن، بعدما صارت معايير الجمال غير واقعية، وتحقيقها يتطلب تكلفة عالية للغاية، خاصة أن النساء يرغبن في أن يحتفظن بشبابهن للأبد.
والحقيقة أن معايير الجمال تتأثر بما يبثه الإعلام؛ فمثلا إحدى الدراسات في عدد من دول بحر الكاريبي في أمريكا الجنوبية أشارت إلى أن 69% من الفتيات بدأن في اتباع حمية غذائية لخفض أوزانهن بعد ثلاث سنوات فقط من دخول التلفزيون إلى بلادهن، رغم أن الثقافة السائدة قبل ذلك، هي أن بالبدانة من معايير الجمال.
تركز وسائل الإعلام على معايير الجمال الأنثوي في الوجه والجسد، أما الرجل فيركز الإعلام على دوره وصفاته وقدراته، أي أن المعايير الجسدية للرجل متوارية لصالح دوره، هذا زاد من خضوع المرأة لمعايير الجمال التي فرضها المجتمع الحديث؛ فالمرأة لا تحصل على القبول الاجتماعي وتفوقها في الحياة المهنية والعملية إلا من بوابة هذا الجمال.
انعدام الأمن النفسي لدى النساء بسبب أزمتهن مع معايير الجمال، كان مجالاً خصبًا للاستثمار وتحقيق المكاسب الاقتصادية الهائلة، فتم ضخ أموال هائلة لترسيخ الإحباط وعدم الاتزان النفسي للمرأة، من خلال التأكيد على أهمية الجمال في حياة الأنثى ومكانتها، فكانت صورة الجميلات تملأ صفحات المجلات النسائية، وتأتي مصحوبة بمستحضرات التجميل، وكأن تلك المستحضرات قادرة على تغيير الملامح التي خلقها الله تعالى.
تشير إحصائية إلى أن المجلات النسائية أصبحت تقدم 40% مواد تحريرية و60% إعلانات، وكلها تدور في فلك واحد الاستجابة لمعايير الجمال الحديثة لأنها بوابة النجاح والمكاسب وإثبات الذات.
أدركت الرأسمالية مبكرًا أهمية إيجاد أزمة بين الإنسان وذاته، والانطلاق من تلك الأزمة نحو خلق الحاجة للسلعة في نفس الشخص ثم إنتاجها وتسويقها.
ونستعرض هنا قصة رجل الأعمال الفرنسي "يوجين شولر" المتخصص في مستحضرات التجميل، وإنتاج شامبو لوريال منذ عام 1938م، ذكر "شولر" أن سكان فرنسا البالغ عددهم حينها (43) مليون نسمة، لو تم إقناعهم بغسل شعرهم مرة واحدة أسبوعيًّا، فإن شركته ستبيع (20) ضعفًا مما كانت تسوقه حينها، ورأى أن السبيل لتحقيق هذه الطفرة في المبيعات لن يتأتى إلا من خلال إقناع الناس أنهم "مقززون وذو رائحة كريهة، وغير جذابين" وأن ما يزيل هذه الصفات السيئة هو منتجات شركته.
كانت خدعة تسويقية كبيرة استفادت منها بعد ذلك شركات التجميل، من خلال التلاعب بمشاعر الناس وأفكارهم لجني الأرباح الهائلة.
العلاج: أما مواجهة تلك المعايير الصارمة للجمال التي أوجدتها الحداثة، وأفقدت المرأة طمأنينتها وسكينتها النفسية، لا يأتي إلا من خلال الخروج من تلك المنظومة المعرفية المادية، نحو رحابة الرضا والإيمان والتصالح مع الذات، والتسليم لله تعالى، وإبصار النعم التي أفاض الله بها على الإنسان، وأن يغض الإنسان نظره عما منحه الله للآخرين.
فالتغيير يكون من الداخل وليس من خلال مستحضرات التجميل وجراحته، وكما يقول الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة: "متى اتسع نطاق محبتك، اتسع نطاق الجمال في حياتك؛ لأنك لا تستطيع أن ترى قباحة فيما تحب، ولا جمالاً فيما تكره".