الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
23 - رقم الاستشارة : 2052
24/05/2025
هل هناك علاقة بين الدين والصحة النفسية؟ وهل فعلا المعرفي والفكري قادر على معالجة مشكلات الإنسان المعاصر لأزماته وأمراضه؟
يظن البعض أن الفائدة التي يجنيها الإنسان من تدينه وتنفيذه لأوامر الخالق سبحانه وتعالى، والانتهاء عن نواهيه، تقتصر على الدار الآخرة، وأن الانغماس في الشهوات والملذات وكل الموبقات يحقق الحياة الطيبة للإنسان في حياته الدنيا.
لــكن.. كلا التصورين خطأ؛ فالتدين والالتزام السلوكي الظاهري، وإصلاح باطن الإنسان ونيته وقصده ومقاصده، يجني المؤمن ثماره في الدنيا، إلى جانب عظيم الأجر في الآخرة، كذلك فإن الانغماس في الشهوات وارتكاب الموبقات يجني الإنسان مرارته في الدنيا، إلى جانب سوء الحساب في الآخرة.
مع الحداثة الغربية، وحالة الاضطهاد التي تعرضت لها الأديان في الواقع، وفي المراكز البحثية، روجت مسؤولية الدين عن الكثير من أمراض العُصاب (يقصد بها الاضطرابات النفسية التي لا تسبب فقدان الاتصال بالواقع، مثل القلق، والاكتئاب، والوسواس)، وعلى هذا نُظر للدين كأحد مسببات الأزمات والأمراض النفسية والعقلية، ولذا تم إبعاده عن أي دور علاجي أو تأثيري تحقيقًا للعافية.
لـــــكن هذه المزاعم السابقة أثبتت الأبحاث العلمية والتجارب السريرية والدراسات الإحصائية أنها غير حقيقة وخاطئة ولا تستند إلى أساس علمي يمكن مناقشته أو الركون إلى صحته، ولعل هذا ما فتح آفاقًا جديدة من التواصل بين الدين وبين الطب النفسي وعلم الأعصاب والدماغ، وظهر مجال علمي جديد يسمى بــ"اللاهوت العصبي" أو "علم الأعصاب الديني" Neuroscience of religion الذي يسعى لفهم العلاقة بين الدماغ والأعصاب وبين الدين والتجارب الروحية.
تشير الإحصاءات إلى أن الاضطرابات والأمراض والمشكلات العقلية المتكررة والمزمنة يعاني منها نسب كبيرة من سكان العالم، تقدر بـ(10.7%) يشكل الاكتئاب منها (3.4%) والقلق والتوتر (3.8%)، كما أن كثيرًا من اضطرابات الصحة العقلية والنفسية غير مشخصة، وهذا يؤثر على الأسرة والمجتمع والاقتصاد والجوانب الأمنية.
لـــــكـن في العقود الأخيرة أخذ الاهتمام بدور الدين في العلاج النفسي والعقلي يأخذ مكانه في أروقة البحث والأوراق العلمية، وهذا يلفت النظر إلى أهمية الفكري والمعرفي في تصحيح واقع الإنسان ومساراته؛ فالأفكار لها مكاسب وأرباح، ولها كذلك خسائر، والإنسان طاقته وقوته ودوره الكوني ينبع من داخله من روحه وعقله ووجدانه، وربما هذه هي الرسالة الكبرى للأديان وعلى رأسها الإسلام.
في العام 2019م نشر مركز بيو الأمريكي لأبحاث الدين دراسة مهمة اعتمد فيها على معلومات وبيانات من (35) دولة، وخلصت تلك الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يرتادون دور العبادة بانتظام أكثر سعادةً وانخراطًا في الحياة المدنية من غيرهم.
وذكرت الدراسة أن الكثير من الدراسات التي تم الاستناد إليها تربط بين الدين والسعادة والصحة النفسية، وأكدت أن الأشخاص المتدينين أكثر ميلاً للقول بأنهم سعداء، وأن دراسات أخرى ربطت بين الدين والصحة البدنية.
أما تأويل تلك العلاقة بين الإيجابية والصحة النفسية والعقلية، فيمكن القول بأن الدين يربط ويفسر الحياة من خلال المتعالي والمقدس، وهو ما يخفف من أثر المعاناة، ويولد قناعات بأن الإنسان يستند في الكون إلى قوة أكبر وأعظم وهو ما يخفف ضغوطه النفسية وتوتره، ومن ناحية أخرى فالدين يوفر المعنى للحياة، وهذا يساهم في التعاطي الإيجابي مع متغيراتها بعيدًا عن الأفكار العدمية.
وفي دراسة برازيلية أخرى نشرت عام 2022م عن "التدين والصحة النفسية" تضمنت مراجعات لمقالات ودراسات باللغات الإنجليزية والبرتغالية والإنجليزية والإسبانية من عام 2010 حتى 2018م، وتوصلت إلى مجموعة من النتائج منها: الاعتراف بالتأثير الديني في تحسين جودة الحياة، وأكدت على وجود علاقة إيجابية بين التدين والصحة النفسية، وأن الأفراد غير المتدينين يعانون من رفاهية نفسية وروحية منخفضة أو متوسطة وأكثر عرضة لتناول الكحل بنسبة تفوق سبع مرات غيرهم، وأنهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية بمرتين أكثر من غيرهم.
وخلصت كذلك إلى أن التدين يؤدي إلى انخفاض القلق والاكتئاب ومعدلات الانتحار ويحسن الصحة البدنية ويقلل نسب التدخين وتعاطي الكحل والمخدرات، من ثم يلعب الدين عاملاً وقائيًّا من تلك الأمراض.
هذه الحقيقة تحدث عن القرآن الكريم، وهنا نتذكر الآية (97) في سورة النحل في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
يقول سيد قطب في تفسيرها: "والعمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض.. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال.. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة.. وليس المال إلا عنصرًا واحدًا يكفي منه القليل".
ويقول الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب": "واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه، منها: أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيًا بكل ما قضاه وقدره، وعلم أن مصلحته في ذلك، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء".