الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
41 - رقم الاستشارة : 3079
26/10/2025
مصطلح التعايش من أكثر المصطلحات التي نسعمها منذ سنوات، فهل المقصود بالتعايش هو التعاون والتكامل أم أن المقصود بالتعايش هو التأقلم مع الواقع وعدم بذل أي جهد في تغييره للأفضل أو حتى مقاومة المفاسد الموجودة؟
أخي الكريم، لا شك أن التعايش ضرورة إنسانية واجتماعية لضمان أمن واستمرار الحياة الإنسانية، وبدونه يتحول المجتمع لـ"حرب الكل ضد الكل"، كما ذهب الفيلسوف الانجليزي "توماس هوبز" في القرن السابع عشر الميلادي.
وأتفق مع ملاحظتك القيمة، فمنذ عدة سنوات وهناك إلحاح في الحديث عن التعايش في مجتمعاتنا، وهو حديث يستبطن أن مجتمعنا أزمته الأولى هي أزمة تعايش، وهذا لا شك أمر غير صحيح، فأزمة التعايش أزمة ضمن أزمات متعددة يعاني منها مجتمعنا العربي والإسلامي، وقد تكون في بعض المناطق أقل حدة من أزمات أخرى.
الأمر الآخر أن البعض ينظر بريبة إلى كثافة استحضار أزمة التعايش في واقعنا، ويتوجس من الغاية الكامنة وراء ذلك، ويظن أن وراء ذلك خلق روح الضعف والاستسلام وعدم مواجهة الأخطاء والمفاسد، وربما صهر الأديان والثقافات في بوتقة واحدة رغم ما بينها من تنوع وربما تناقض، كما أن البعض توجس أن يكون خطاب التعايش هو انعكاس لخطاب القوة الحالي، ولا شك أننا نكون أمام إخضاع وإذعان وقهر ولسنا أمام تعايش.
ورغم كل تلك الهواجس التي تحوم حول التعايش فإنه قضية شديدة الأهمية لتحقيق الانجسام والأمن في المجتمعات، ونزع روح الفرقة والتطاحن التي اكتوت بسببها مجتمعات عربية ومسلمة عانت من الاحتقانات والصراعات المجتمعية التي وصلت إلى حد الحرب الأهلية.
ما هو التعايش؟
التعايش من المصطلحات حديثة النشأة حيث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مضمونه وجوهره قديم، وجوهره يتعلق بالاحترام والاعتراف والتعاون المتبادل بين المختلفين وصولاً إلى الاتفاق على قواعد تنظم العيش المشترك.
الأصل في البشر هو الاختلاف والتنوع، وهو أمر قضته المشيئة الإلهية، فالاختلاف والتنوع هو الأصل، لكن هذا التنوع يجب ألا يتحول إلى حالة صراعية تصادمية؛ لأن المطلوب أن التنوع يستوجب التكامل والتعاون.
وهنا يظهر الاختلاف في التطبيق الحضاري بين الرؤيتين الإسلامية والغربية؛ ففي التجربة الأوروبية كان التنوع تهديدًا للأمن القومي، وكان من ينادي بالاعترف بالتنوع وتحقيق التعايش يُنظر إليه كخائن، وظهر ذلك في الخلافات الدينية بين الطوائف المسيحية في أوروبا والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت.
أسس التعايش
الرؤية القرآنية طرحت التعايش من خلال إقرارها الحرية الدينية، ثم دعوة المختلفين من أهل الأديان إلى الكلمة السواء، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (سورة آل عمران: 64).
يقول الإمام الفخر الرازي في تفسير الآية في "مفاتيح الغيب": "والسواء هو العدل والإنصاف، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوّى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال، فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل".
ومن هنا فإن الإنصاف أو العدل هو المدخل الذي يحقق التعايش وينزع الاحتقان والغضب والعنف، وبدون إيجاد العدل فلن يتحقق التعايش المنشود.
والتعاون ضروري لتحقيق التعايش كما أنه من ثمار التعايش، فالتعاون يعني التفاعل الإيجابي والمصلحي بين أفراد ومكونات المجتمع مما يمهد لتحقيق التماسك والتآزر، وهو من الأخلاق والسلوكيات الحضارية التي تتميز بها المجتمعات القوية.
والتعايش ضرورة في المجتمعات خاصة بعد الصراعات والأزمات؛ لأنه يقيد الكراهية والعنف، ويُلجم روح الانتقام والتشفي في المجتمعات، وإحدى الركائز الأساسية للتعايش هو الاعتراف بالتنوع والاختلاف، ودون وجود مثل هذا الاعتراف فلن يتحقق التعايش.
روابط ذات صلة:
خطاب الكراهية دوافعه وتأثيراته