الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الفتور والضعف
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
45 - رقم الاستشارة : 2891
06/10/2025
أسأل الله أن يكتب لكم الأجر والمنفعة.
أنا أعاني من مشكلة نفسية ودي آخذ فيها نصيحتكم.
الله رزقني من فضله، وعندي فلوس زايدة عن حاجتي وحاجة عائلتي، والحمد لله المدخول يكفيني ويبقى منه. بس المشكلة تبدأ لما أسمع عن حالة محتاجة بقوة، أو أشوف إعلان لمشروع خيري أتحمس وأتأثر وأقرر أتصدق بمبلغ كبير، لكن وقت الجد، عند الدفع تبدأ الوساوس والتردد، وأصير أحسبها بالتفصيل الممل: كم المبلغ اللي بيطير من رصيدي؟ كم بيبقى لي تحديدًا؟ لا يكون المبلغ كبير ويزعزع استقراري؟ هل هذي الفلوس ما أحتاجها مستقبلًا؟
هذا التفكير يخليني أرجع في كلامي أغلب الأوقات، وإذا دفعت، يكون المبلغ جدًّا بسيط وأقل من اللي نويته.
بعدها أندم ندم مو طبيعي وألوم نفسي على ضعف الإيمان هذا وعلى تفويت الأجر. فكيف أروِّض نفسي وأعوِّدها على الكرم والجود، وأفك نفسي من هذا الخوف من النقص والحاجة رغم أن فلوسي واجد؟
وهل الشح هذا رغم وجود نية الخير في البداية، يعتبر ضعف يقين وإيمان؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك جزيل الشكر على ثقتك بنا، وعلى هذه الشفافية والصدق في طرح مشكلتك، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح عليك من أبواب فضله ورحمته، وأن يرزقك اليقين الصادق، ويشرح صدرك للخير، وأن يعينك على نفسك وشهواتها، ويزرع في قلبك جودًا وكرمًا يرضاهما منك، وأن يتقبل منك صالح الأعمال، وبعد...
فلا شك أن ما تشعر به -أخي الفاضل- هو صراع داخلي يعيشه كثيرون، بين نداء الإيمان الذي يدعوك إلى البذل والإنفاق، وبين وسوسة الشيطان وضعف النفس البشرية التي جُبلت على حب المال والخوف من الفقر، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ [آل عمران: 14].
ولكن الجميل في سؤالك هو أن النية الطيبة موجودة في البداية، وهذه هي نقطة انطلاقك. فأنت لست بخيلًا في أصل طبعك؛ بل هو خوف من المستقبل أو وساوس يلقيها الشيطان في طريقك ليحرمك من عظيم الأجر. وما هذا الندم الذي تشعر به إلا دليل على حياة قلبك وصدق رغبتك في الخير، فلا تَلُمْ نفسك ولا تقسُ عليها؛ بل حوِّل هذا اللوم إلى قوة دفع وعزيمة للتغيير.
هل الشح رغم نية الخير ضَعف إيمان؟
لن أجاملك أخي، وأقول لك بكل صراحة: نعم، إن هذا التردد والخوف من النقص على الرغم من وفرة المال، هو مظهر من مظاهر ضعف اليقين بوعْد الله، ونوع من الشح الذي حذَّر منه القرآن وكذلك السُّنة.
إن الوساوس التي تأتيك وقت الدفع هي عين ما أخبر به القرآن، إنها محاولة شيطانية لصدك عن الخير وتخويفك من الفقر. قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268].
لاحظ كيف أن الشيطان {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي: يخوفكم به لتتركوا الإنفاق، {واللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}، فالصراع هنا بين وَعْدَيْن: وَعْد الخالق بزيادة الرزق، ووَعْد المخلوق الكاذب (الشيطان) بالفقر.
الشح والخوف من المستقبل
إن الشح هو البخل الشديد مع الحرص على الشيء، وهو من المهلكات. قال النبي ﷺ: «إياكم والشُّحَّ؛ فإن الشُّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» [رواه مسلم].
وأنت -أخي الكريم- لم تصل إلى مرحلة الشح المُهلك الذي يجعلك تستحل مُحَرَّمًا، ولكن خوفك من النقص هو بداية الطريق إليه. وتذكَّر أن الرزق بيد الله وحده سبحانه، وأن ما تنفقه في سبيل الله هو تجارة رابحة لا تُبقي لك رصيدًا من المال في الدنيا فحسب، بل رصيدًا لا ينفد عند الله في الآخرة.
كيف تُروِّض نفسك على الجود؟
لترويض النفس وتغيير العادات تحتاج إلى جرعات إيمانية، منها:
1- تذكَّر الخَلَف من الله:
رسِّخ في قلبك عقيدة أن الله هو المُخلِف (المُعوِّض) عن كل ما تنفقه. قال النبي ﷺ: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًا» [رواه البخاري].
تخيَّل نفسك وأنت تنفق، والملَك يدعو لك بالخَلَف، ما أجملها من دعوة! وكن على يقين أن المال الذي خرج لم يذهب ولن يضيع؛ بل تحوَّل إلى استثمار في بنك لا يخسر أبدًا.
استشعر في كل مرة تنفق فيها الآية العظيمة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
تخيّل أن الألف ريال التي تنوي التصدق بها يمكن أن تعود إليك في ميزان حسناتك بسبعمائة ألف، أو أكثر! هل هناك تجارة أربح من هذه؟ حوِّل تفكيرك من: «كم سيَنقص؟» إلى: «كم سيَتضاعف؟».
2- أنت مُستَخلَف لا مالِك:
إن المال في يدك هو وديعة واستخلاف من الله، ليرى كيف ستتصرف فيها. قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]. فنحن مجرد وكلاء مؤتمنين، وسنُسأل كيف أنفقنا وكيف قتَّرنا.
3- التنفيذ الفوري:
بما أنك تتأثر وتنوي الإنفاق في البداية ثم تأتيك الوساوس، فاجعل التنفيذ فوريًّا دون إعطاء مجال للوسوسة. عندما يأتيك الحماس لنصرة محتاج، بادر بالدفع فورًا ولا تؤجل، ولا تترك مجالًا للتفكير والمراجعة. تعوَّد قطع التفكير عند باب الخير.
إنها معركة بينك وبين الشيطان، سلاحك فيها هو العزيمة الفورية. فجاهد نفسك في البداية حتى تتعود على الانطلاق دون تردد.
4- حدد هدفًا واقعيًّا:
بدلًا من تحديد مبلغ ضخم تتردد فيه، ابدأ بمبلغ بسيط ثابت شهريًّا، ترصده لله عز وجل، ثم ارفع السقف تدريجيًّا كل فترة. فهذا ترويض للنفس بالمراكمة لا بالقفز المفاجئ.
5- تذكَّر المُثُل العليا:
تذكَّر كرم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عندما جهّز جيش العسرة، وكرم أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الذي جاء بماله كله للنبي ﷺ. إنهما من النماذج البشرية التي وصلت إلى أعلى درجات اليقين، فما ضرهم نقص المال؟ بل زادهم الله مكانة ورفعة وغنى.
6- الاستعاذة والدعاء:
استعذ بالله بصدق دائمًا من الشيطان الذي يوسوس لك بالفقر، وادعُ ربك بيقين أن يطهر قلبك من الشح.
أكثر من الدعاء النبوي الشريف: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والبخل والهرم، وعذاب القبر» [رواه البخاري]. فقد جمع النبي ﷺ بين البخل الذي هو الشح بالمال، وبين العجز والكسل الذي هو الشح في الطاعة والعمل.
وختامًا أخي الحبيب، تذكَّر أن السعادة الحقيقية لا تكمن في تضخم الأرصدة في البنوك؛ بل في إحساسك بالقيمة وأنك كنت سببًا في سد حاجة أو تفريج كربة.
استحضر أن المال الذي ستبذله اليوم هو المال الباقي لك حقًّا، قال النبي ﷺ: «يقول العبد: مالي مالي! وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» [رواه مسلم].
فابدأ الآن، لا تنتظر، بادر بتنفيذ ما نويت، واستشعر حلاوة العطاء، وسترى كيف يرزقك الله طمأنينة وسعة لم تكن لتجدها في كنوز الدنيا.
وفقك الله لكل خير، وجعلنا وإياك من عباده الشاكرين المنفقين.
روابط ذات صلة:
كيف أتغلب على شعوري بالعجز تجاه المحتاجين؟