الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الفتور والضعف
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
43 - رقم الاستشارة : 3059
24/10/2025
السلام عليكم.
أنا شاب عندي 24 سنة، متخرج قريب من كلية تجارة، ومن وقتها وأنا بادور على شغل ومش لاقي حاجة مناسبة. حضرتك عارف إن اللي متخرجين من كليات زي دي بالآلاف، والمنافسة صعبة جدًا.
بصراحة، ساعات بيصيبني يأس وإحباط شديد، خصوصًا لما باشوف زملائي أو حتى ناس أصغر مني كتير، ما شاء الله، كل واحد فيهم بيشتغل حاجة، أو عنده مهارة معينة بيستغلها، زي البرمجة، الجرافيك ديزاين، اللغات، التسويق الإلكتروني... إلخ.، أو عنده شغف بحاجة معينة بيحاول ينمّيها.
أما أنا، فبحس إني فاضي تمامًا، لا عندي مهارة مطلوبة في سوق العمل، ولا حاسس بشغف حقيقي تجاه أي مجال، والموضوع ده مخليني حاسس إني عاجز ومختلف عن الناس.
الوسواس اللي بيجيلي كل فترة هو: ليه ربنا سبحانه وتعالى ما إدانيش زيهم مواهب أو مهارات أو قدرات مميزة أقدر أفتح بيها أبواب رزقي وألاقي بيها مكان في الدنيا دي؟ مع إني باستغفر وباحاول أهدّي نفسي وأقول إن الأرزاق مقسومة، لكن الشعور بالنقص والغيرة ده بيرجع لي تاني، وبيخليني باستعجل إني ألاقي حاجة أعملها.
فإزاي أقدر أواجه الشعور بالنقص واليأس ده؟ وإيه الخطوات اللي تنصحوني بيها عشان أتصالح مع نفسي وأعرف إيه المهارات أو القدرات اللي ربنا حطّها فيّا عشان أقدر أبدأ بيها بشكل عملي في حياتي؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك يا ولدي، وأشكرك جزيل الشكر على ثقتك بنا واستشارتنا، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يشرح صدرك، وييسر أمرك، ويفتح لك أبواب رزقه وكرمه، وأن يلهمك الرشاد ويمنحك الطمأنينة والسكينة في قلبك، وبعد...
فيا ولدي العزيز، أتفهَّم تمامًا حجم الضغط النفسي والقلق الذي تعيشه، فشعورك باليأس أو الإحباط أمام صعوبة الواقع والمقارنة بالآخرين هو شعور إنساني طبيعي، يمر به كثيرون من شبابنا في المرحلة الانتقالية الصعبة بين الدراسة وسوق العمل المزدحم.
المواجهة الإيمانية للشعور بالنقص واليأس
إن وسواس «لماذا لم يمنحني الله مواهب كغيري؟» هو مدخل شيطاني يهدف إلى إفساد صفاء الإيمان بالقضاء والقدر، وإذكاء نار الغيرة السلبية التي تحرق القلب قبل أن تنفع صاحبها.
يا بني، يجب أن تترسخ في قلبك عقيدة ثابتة، وهي أن الأرزاق مقسومة ومقدَّرة، وجميع البشر في الحقيقة لديهم مواهب وقدرات؛ لكنها متفاوتة فيما بينهم. والله -سبحانه وتعالى- هو الرزَّاق، وقد تكفل برزق كل مخلوق قبل خلقه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. وهذا اليقين هو مفتاح الطمأنينة.
يقول تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلٌّ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ﴾ [سورة هود: 6]. وفي الحديث القدسي: «يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ» [رواه مسلم]. وهذا لا يعني الجلوس والانتظار، بل يعني السعي بيقين لا بقلق.
الاختلاف سنة إلهية (تفاضل لا نقص):
إن التفاوت في الأرزاق والمواهب له حكمة إلهية، لتقوم الحياة ويعمل الناس بعضهم لبعض. تخيل لو أن كل الناس أطباء أو مهندسون فقط! يقول تعالى: ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا سُخۡرِيًّاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].
إن الشعور بالنقص سببه المقارنة الظاهرة. فأنت تقارن بدايتك وفراغك بمنتصف أو نهاية طريق الآخرين. كل واحد ممن تقارن نفسك بهم قد مر بلحظة الفراغ التي تمر بها أنت الآن، لا شك.
بين غيرة سلبية (الاعتراض) وغيرة إيجابية (الاجتهاد):
الشعور بـ الغيرة السلبية هو أن تتمنى زوال النعمة عن الآخر، أو أن تعترض بقلبك على قسمة الله لك. وهذا ما تجب مقاومته بالاستغفار واليقين.
والحل هو تحويل الغيرة السلبية التي منطلقها الاعتراض، إلى غيرة إيجابية تقوم على الاجتهاد والسعي، أي إلى «غبطة»، وهي أن تتمنى لنفسك مثل ما للآخرين دون تمني زوال النعمة عنهم، وأن تستلهم منهم الجد والاجتهاد والسعي. يقول النبي ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» [متفق عليه]. أي: لا غبطة مشروعة إلا في هذين الأمرين، فالغبطة في العلم والعمل الصالح هي الوقود المحمود.
الخلاصة: ركِّز على ما لديك أنت بالفعل: شهادك، عقلك، شبابك، قوتك، وقت فراغك الحالي، بدلًا من التركيز على ما ليس لديك.
الاستعجال والقنوط:
إن الشعور بالاستعجال هو نتاج لليأس، وكلاهما يضيِّع التركيز. فاليأس يجعلك ترى أن النتيجة مستحيلة، والاستعجال يجعلك تترك العمل قبل أن يؤتي ثماره.
وقد قال النبي ﷺ: «إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه مَلَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروحَ» [متفق عليه].
فالحياة رحلة نمو تدريجي، كالجنين في بطن أمه، لا تحدث الطفرة بين ليلة وضحاها. مهارات زملائك وأقرانك لم تظهر في يوم واحد، بل هي نتاج أيام أو شهور أو سنوات من التعلم والممارسة والتطوير.
خطوات عملية لاكتشاف الذات وبناء المسار
يا بني، ما دمت تشعر الآن بـ«الفراغ» وبـ«الاستعجال» لإيجاد شيء تفعله، فهذه هي الفرصة الذهبية لتجعل من الفراغ أرضًا خصبة للغرس والانطلاق.
إن تصالحك مع نفسك يبدأ من الاعتراف الإيجابي: «تخرجتُ في كلية التجارة في سوق صعب، وهذه بداية تحتاج مني إلى مجهود مضاعف ووعي جديد». أنت لم تفشل في حياتك، بل أنهيت مرحلة، والآن تبدأ المرحلة الأصعب والأمتع: مرحلة البناء الذاتي الحقيقي.
عليك أن تحدد منطقة القوة المخفية لديك، ولا تجلس في انتظار أن يأتيك «الشغف»، فالشغف ليس شرارة تشتعل فجأة، بل هو نتيجة للممارسة والاجتهاد في مجال تجد نفسك قادرًا على الإنجاز فيه.
ابحث في تاريخك: ما المواد التي كنتَ متفوقًا فيها (حتى لو لم تكن من مواد كلية التجارة)، ما الأمور التي كنت تستمتع بمساعدة الآخرين فيها؟ هل تحب تحليل البيانات، أم التواصل، أم التنظيم، أم حل المشكلات؟ هذا هو منطلقك العملي الأول.
إن كثيرًا من رواد الأعمال أو الناجحين بدؤوا بعمل لم يشعروا بالشغف تجاهه في البداية، ولكنه كان عملًا مجديًا تعلموا منه مهارات أساسية (التزام، تعامل مع العملاء، إدارة وقت...)، ثم تولد الشغف عندما رأوا النجاح والإنجاز.
وإليك ثلاثة مسارات يمكنك استثمار وقتك الحالي فيها، كل مسار منها يقود إلى مهارة أو شغف محتمل:
أولًا- مسار التجربة السريعة (تنمية الذكاء المهني):
جرِّب ثلاثة أشياء مختلفة لمدة شهر واحد لكل منها.
* تجربة مهارة مطلوبة: (مثال: التسويق الإلكتروني، أو إدخال البيانات وتحليلها باستخدام برامج الحاسب، أو المبيعات... إلخ).
* تجربة مهارة إبداعية: (مثال: تعلم أساسيات تصميمات الجرافيك، أو المونتاج... إلخ).
* تجربة لغة أجنبية: (اللغة الإنجليزية بشكل احترافي لمجال الأعمال).
والهدف من هذا المسار ليس الإتقان التام، بل معرفة «هل أنا مرتاح نفسيًّا لهذا المجال، وأستطيع الإنجاز فيه؟»، إذا وجدت نفسك أفضل في إحداها، فانتقل إلى المسار الثاني فيها.
ثانيًا- مسار القوة الكامنة (اكتشاف الموهبة):
اسأل مَن حولك (الأهل والأصدقاء المخلصين): «في رأيكم، ما الشيء الذي أجيده دون مجهود كبير مني؟»، غالبًا ما يرى الناس فيك مهارات أنت لا تراها (صبر، ذوق، قدرة على الإقناع، هدوء، تنظيم... إلخ).
ثالثًا- مسار التخصص (بناء الخبرة):
بما أنك خريج كلية التجارة، لا تهمل أساس شهادتك. قد تكون المهارة التي تبحث عنها هي تطبيق التجارة في مجال حديث. فركِّز على دمج تخصصك التجاري مع المهارات المطلوبة حاليًّا:
* تجارة + تسويق رقمي = متخصص تسويق رقمي للشركات المالية أو التجارية.
* تجارة + لغة إنجليزية + مهارات تواصل = خدمة عملاء للشركات العالمية (عن بعد).
* تجارة + إكسل متقدم (تحليل بيانات) = محلل مالي أو محاسب إداري.
وختامًا يا ولدي، إن شعورك بالفراغ هو في الحقيقة «لوح أبيض» ينتظر منك أن ترسم عليه مستقبل حياتك. لا تجعل الغيرة أو المقارنة تسرق منك هذه اللحظات الثمينة.
تذكر دائمًا:
قدراتك فيك، لكنها تحتاج للتنقيب والتعلم..
2. الرزق بيد الله، والسعي واجبك.
3. كل نجاح عظيم بدأ بخطوة صغيرة واختبار للمهارات، فابدأ اليوم.
توكل على الله حق توكله، وادعُه سبحانه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»، توجه إليه –سبحانه- بخطوات عملية، وسوف تجد الإجابة والرزق والبركة قريبًا بإذن الله.
وفقك الله وسدد خطاك، وننتظر منك رسالة تبشرنا بما وصلت إليه قريبًا.
روابط ذات صلة: