كيف أميز بين الرضا بالقضاء والاستسلام للأمر الواقع؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الفتور والضعف
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 283
  • رقم الاستشارة : 2141
19/07/2025

أنا سيدة أواجه في حياتي تحديات أسرية واجتماعية ترهقني. عندما أواجه مشكلة أو وضعًا صعبًا أجد نفسي أميل إلى التوقف عن المحاولة، وأقول لنفسي: "هذا قضاء الله وقدره، وعليّ أن أرضى به وأقبله". ولكن في أعماقي، ينتابني شعور بالضعف أو العجز، وكأنني أستسلم للأمر الواقع خوفًا من الفشل أو من بذل مزيد من الجهد الذي قد لا يؤتي ثماره.

هل هذا هو الرضا الحقيقي الذي يأمرنا به الدين؟ أم أنه مجرد تبرير لعدم السعي أو اليأس؟

كيف يمكنني أن أعرف إن كنت راضية حقًّا بقضاء الله وقدره، أم أنني فقط مستسلمة للأمر الواقع؟

وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة 19/07/2025

أهلًا بكِ أختي الفاضلة، وشكرًا جزيلًا لكِ على هذه الثقة الغالية التي منحتِنا إياها بمراسلتكِ وطرح سؤالكِ العميق والمهم. أسأل الله أن يبارك فيكِ، ويشرح صدركِ، وييسر أمركِ، ويجعل كل تحدٍّ تواجهينه سببًا لرفع درجاتكِ وتكفير سيئاتكِ، وأن يرزقكِ الرضا الحقيقي الذي يملأ قلبكِ سكينة وطمأنينة، وبعد...

 

أختي الكريمة، إن ما تصفينه من الميل إلى التوقف عن المحاولة وقول: "هذا قضاء الله وقدره، وعليّ أن أرضى به وأقبله"، مع شعور داخلي بالضعف أو العجز أو الخوف من الفشل، هو في الغالب ليس الرضا الحقيقي الذي يأمرنا به ديننا الحنيف؛ بل هو أقرب إلى الاستسلام السلبي أو اليأس المقنّع بثوب القضاء والقدر.

 

إن الرضا الحقيقي بقضاء الله وقدره هو منزلة قلبية عظيمة، لا تعني أبدًا التوقف عن السعي أو التخاذل عن بذل الجهد؛ بل هو حالة من الطمأنينة القلبية الكاملة لأحكام الله وتدبيره، تأتي بعد أن يكون العبد قد بذل كل ما في وسعه من أسباب مشروعة، وسعى بكل طاقته، ثم فوّض أمره إلى الله ورضي بما قضاه وقدَّره، علمًا منه بأن الله لا يقضي إلا خيرًا، وأن تدبيره هو الأكمل والأحكم.

 

فالإسلام دين عمل وسعي، لا دين تواكل وكسل. الله -سبحانه وتعالى- أمرنا بالسعي في الأرض، والأخذ بالأسباب، وجعل ذلك جزءًا لا يتجزأ من إيماننا وتوكلنا عليه. يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]. فالمشي في مناكب الأرض هو السعي والعمل.

 

والنبي ﷺ وهو قدوتنا، كان يأخذ بالأسباب في كل أموره، فكان يلبس لأَمة الحرب، ويخطط للغزوات، ويستشير أصحابه، ويدعو الله. وحين سُئل: يا رسول الله، أنداوِي؟ قال: «نعم، تداوَوا؛ فإن الله لم ينزِل داءً إلا أنزَل له شفاءً، علِمَه مَن علِمَه، وجَهِلَه مَن جهِلَه» [رواه الترمذي وأبو داود]. وهذا الحديث يؤكد على أهمية السعي في طلب الشفاء، وهو نوع من الأخذ بالأسباب.

 

أما الاستسلام الذي يصحبه شعور بالعجز واليأس، فهو يتنافى مع روح التوكل على الله، الذي هو الاعتماد على الله مع بذل الأسباب. فلو توكل الناس حق التوكل، لرزقهم الله كما يرزق الطير. يقول النبي ﷺ: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي]. وهذا لا يعني أن الطير تبقى في أعشاشها تنتظر الرزق، بل تغدو (تخرج مبكرة) ساعية لطلب رزقها.

 

كيف تعرفين إن كنت راضية حقًّا بقضاء الله أم أنك مستسلمة للأمر الواقع؟

 

إليكِ بعض العلامات التي تساعدكِ على التمييز:

 

علامات الرضا الحقيقي:

 

1- السعي وبذل الجهد: القلب الراضي يسعى جاهدًا لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ويبذل الأسباب المشروعة، ولا يتوقف عن المحاولة ما دام هناك أمل أو سبيل. هو لا ييأس من روح الله.

 

2- الطمأنينة القلبية: على الرغم من التحديات، يشعر القلب الراضي بسكينة داخلية، وسلام نفسي؛ لأنه يثق بأن الله لا يقدِّر إلا خيرًا، وأن وراء كل ابتلاء حكمة.

 

3- التوكل الصادق: يعتمد فيه المؤمن على الله بقلبه، ويعلم أن النتائج بيده سبحانه، فيفوض الأمر إليه بعد أن يكون قد أدى ما عليه.

 

4- الصبر الجميل: يتحمل المصاعب بصبر لا جزع فيه ولا تسخط، مع إدراك أن الصبر مفتاح الفرج. يقول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155- 157].

 

5- الدعاء المستمر: لا يتوقف عن دعاء الله والتضرع إليه، فهو يعلم أن الدعاء هو العبادة، وأنه يغير القدر.

 

6- عدم التسخط أو الشكوى: القلب الراضي لا يشتكي ربه، ولا يتسخط على قدره، بل يتقبله بإيمان ويقين.

 

علامات الاستسلام السلبي (اليأس المقنّع):

 

1- التوقف عن المحاولة: أول وأبرز علامة هي التوقف عن السعي وبذل الجهد، وترك الأمور للصدفة –للقدر- دون تدخل.

 

2- الشعور بالعجز واليأس: إحساس عميق بعدم القدرة على التغيير، وفقدان الأمل في تحسن الأوضاع. يقول الله تعالى محذرًا من اليأس: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

 

3- الخوف من الفشل: الخوف من بذل الجهد الذي قد لا يؤتي ثماره، مما يؤدي إلى عدم البدء من الأساس.

 

4- التبرير بالقضاء والقدر: استخدام القضاء والقدر ذريعةً لعدم تحمل المسؤولية أو لعدم السعي، وهو ما حذر منه النبي ﷺ حين قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» [رواه مسلم]. وهذا الحديث يجمع بين أمرين عظيمين: الحث على السعي والحرص على ما ينفع، ثم الرضا بالقدر بعد وقوعه.

 

5- الكسل والخمول: غياب الدافعية للعمل والتغيير، والركون إلى الخمول.

 

إرشادات عملية:

 

أختي الكريمة...

 

- ابدئي بتغيير نظرتكِ لمفهوم القضاء والقدر. اعلمي أن الله -سبحانه وتعالى- كتب المقادير، ولكنه أمرنا بالسعي، وجعل سعينا جزءًا من قدرنا. فقدر الله أن تسعي، وأن تجتهدي، وأن تدعي، ثم قدر الله أن تكون النتيجة.

 

- لا تخافي من الفشل، فالفشل ليس نهاية المطاف؛ بل هو درس يعلمنا ويقوينا. الأهم هو أن تكوني قد بذلتِ قصارى جهدكِ، ثم تركتِ الأمر لله.

 

- اجعلي من التحديات التي تواجهينها فرصة للتقرب إلى الله أكثر، ولتجديد إيمانكِ وتوكلِكِ عليه. استعيني بالصبر والصلاة، وأكثري من الدعاء، فهو مفتاح كل خير.

 

وختامًا، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقكِ قوة الإرادة، وسداد الرأي، وأن يفتح لكِ أبواب رحمته وفضله، وأن يملأ قلبكِ بالرضا الحقيقي الذي لا يشوبه يأس ولا ضعف.

 

كوني قوية بالله، واثقة بنصره، مجتهدة في سعيكِ، وراضية بقضائه بعد بذل الأسباب. فالله معكِ ولن يخذلكِ أبدًا.

الرابط المختصر :