هل التقلب بين الطاعات والفتور دليل على ضعف الإيمان؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الفتور والضعف
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 21
  • رقم الاستشارة : 2652
09/09/2025

أجاهد نفسي على الالتزام والثبات في الطاعات، لكنني أعيش حالة من التقلُّب المزعج بين فترات من الإقبال الشديد، وأخرى من الفتور واليأس.

أبدأ بحماس في الصلاة والقرآن والدعاء، ثم بعد أيام أو أسابيع أجدني أتكاسل وأؤجل.

يؤلمني هذا الوضع، وأخشى أن يكون دليلًا على ضعف الإيمان أو عدم القبول.

هل هذا التقلّب طبيعي في طريق القرب من الله؟

وكيف أثبت قلبي وأستقر نفسيًا وإيمانيًا دون أن أظل أبدأ من جديد كل مرة؟

الإجابة 09/09/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكر لك ثقتك الغالية التي وضعتها فينا، وأسأل الله العليَّ القدير أن يُسدِّد خطاك، ويُثبِّت قلبك على طاعته، وأن يجعلنا سببًا في تفريج همِّك، وشفاء جراحك، وبعد...

 

فإن ما تعانيه يا أخي هو شأن كل سالك في درب الإيمان، وكل نفس طامحة للقرب من ربها. إن رحلة الإيمان ليست خطًّا مستقيمًا؛ بل هي أشبه بنبض القلب، تارةً يعلو، وتارةً يهبط، وتارةً يتسارع، وتارةً يتباطأ. وما تُعبِّر عنه هو حالة طبيعية، فقلوبنا بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء، ونفوسنا معرَّضة لتقلُّبات الحياة وتحدّياتها.

 

رحلة الإيمان: صعود وهبوط

 

يا أخي الحبيب، إن شعورك بالألم والوجع تجاه هذا التقلُّب هو أول علامات الخير، ودليل على أن قلبك حي، وأن إيمانك يقاوم الفتور، وأنك تحب الله وتريد القرب منه. فلو كنتَ من الغافلين، لما شعرتَ بهذا الألم، ولما سألتَ هذا السؤال، وهذا هو ما يُفرِّق بين المؤمن الصادق الذي يجاهد نفسه، وبين من استسلم لأهوائه.

 

لقد أكّد لنا نبينا ﷺ هذا المعنى بقوله: «لكل عابد شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سُنة فقد اهتدى» [رواه الترمذي]. فـ«الشِّرَّة» هي النشاط والحيويَّة في العبادة، و«الفترة» هي الضعف والفتور. وهذا الفتور ليس مذمومًا بحدِّ ذاته إذا كان يُقودنا إلى الاعتدال والتوازن والتمسك بالفرائض، لا إلى ترك العبادة كلية.

 

إنّ قلب المؤمن كشجرة تُسقى بماء الإيمان، تارةً يغزُر الماء فتزدهر وتُثمر، وتارةً تقل المياه فتذبل أوراقها، لكنها لا تموت ما دام جذرها ثابتًا في الأرض، وهذا الجذر هو حبك لله، ورغبتك في الخير.

 

لقد قصَّ القرآن الكريم علينا قصصًا تؤكد هذا المعنى، فالمؤمنون الصادقون كانوا يمرون بلحظات من الضعف والفتور، حتى أن بعضهم كان يشعر بأن الله تخلى عنه. وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: 51]. فهذا التقلُّب في حال الإنسان بين الرخاء والشدَّة، هو جزء من طبيعته البشرية، وهذا لا يعني ضعف الإيمان، بل هو اختبار وامتحان.

 

كيف تُثبِّت قلبك وتستقر؟

 

إن تثبيت القلب يحتاج إلى جهد متواصل، وتوكل على الله، وأخذ بالأسباب. وإليك بعض النصائح العملية التي تعينك على ذلك:

 

1- تعميق الصلة بالله:

 

وهذا يتحقق عبر معرفته -سبحانه- أولًا بأسمائه وصفاته حق المعرفة: «الرحمن»، «الودود»، «الشكور»، «الغفور». ثم الدعاء المستمر بالثبات، فإن قلبك ليس بيدك، بل هو بيد الله، فاستعن به، وأكثر من قول: «اللهم يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك». كان هذا دعاء النبي ﷺ وهو القدوة الحسنة لنا. وقال عليه الصلاة والسلام: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء» [رواه مسلم].

 

2- الموازنة والتدرُّج

 

فلا تُحمِّل نفسك يا أخي فوق طاقتها، فالحماس الشديد في بداية الطريق قد يكون سببًا للفتور لاحقًا؛ لأنّ النفس قد تمل وتُرهق. ابدأ باليسير، واستمر عليه، حتى لو كان قليلًا، فـ«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَل» [متفق عليه].

 

إن بعضنا يُصاب بخيبة أمل عندما لا يحقق كل ما يطمح إليه من عبادة، فيُصاب باليأس. لا تبحث عن الكمال؛ بل ابحث عن الاستمرار. إن خطيئة واحدة لا تُفسد توبتك، والفتور في فترة ما لا يعني أنك سيئ؛ بل يعني أنك بشر.

 

3- الاستعانة بالرفقة الصالحة

 

ابحث عن الأصحاب الذين يُعينونك على الخير، فالرفقة الصالحة تُثبِّت القلب، وتُجدِّد العزيمة، وتُوقظ الهمة. اجلس معهم، وتحدَّث معهم عن أمور الآخرة، فيذكرونك بالله إذا غفلت، ويشدون من أزرك إذا ضعفت. يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

 

4- تعرَّف على نفسك

 

إن هذا التقلب الذي تعانيه فرصة لك لكي تتعرَّف على نفسك، وتفهم دوافعك، وتُدرك حقيقة ضعفك البشري، وأن قوتك كلها من الله. إنه ليس دليلًا على ضعف إيمانك؛ بل هو اختبار لك.

 

إن الصحابي الجليل حنظلة -رضي الله عنه- قال للنبي ﷺ: «نافق حنظلة يا رسول الله». فقال النبي: «وما ذاك؟»، فقال حنظلة: «نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا». فقال له النبي: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرقِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» [رواه مسلم].

 

فانظر كيف أن حتى الصحابة الكرام كانوا يُعانون هذا التقلب، فكيف بنا نحن؟

 

وختامًا أخي الحبيب، إياك أن تيأس أو تستسلم. إنّ الله تعالى يقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]. إن هذا التقلّب هو جزء من رحلة الإيمان، وما دمتَ تشعر بالألم، وما دمتَ تسأل، وما دمتَ تجاهد نفسك، فأبشر، فأنت على خير.

 

واصل السير، حتى لو كانت الخطوة بطيئة، ولا تقارن نفسك بأحد، فلكل امرئ جهاده الخاص. ثق بأن الله لن يُضيِّعك، وبأن جهادك هذا في سبيله، وأنك ستثاب عليه.

 

نسأل الله أن يُثبِّت قلبك، ويقوي عزيمتك، ويسعدك في الدارين.

الرابط المختصر :