الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الفتور والضعف
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
113 - رقم الاستشارة : 2450
21/08/2025
أنا شاب تخرجت العام الماضي في كلية الطب والآن في سنة الامتياز.
قرأت إن الفترة الكويسة اللي هتيجي في حياتك مع ربنا ممكن متتكررش، وممكن تبقى كل فين وفين إن تكررت أصلا.
الموضوع وصلني وفهمته خصوصا لما وعيت حديث حنظلة وأبو بكر لما قال نافق حنظلة.
الفكرة إن الموضوع بقي تقيل أوي.
يعني حديث إن الإيمان بيزيد وينقص دا مسبب لي أزمة.
أنا موسوس أوي أوي أوي وبخاف أوي ولما بعبد ربنا بعبده خوف (عارف انه دا مشروع. يدعون ربهم خوفا وطمعا) بس أنا طماع. أنا عايز أوصل لمرحلة الخواص اللي هما بيخافوا من القطيعة بينهم وبين ربنا وبيشتاقوا للإنس بالله والعيش تحت ظل رعايته
باسأل نفسي ليه الإيمان يزيد وينقص في حاجة أنا مش فاهمها.
ليه ربنا فرض دا علينا (استغفر الله لو دا في تجرؤ) بس ليه ميبقاش اللي وصل لمرحلة إيمانية معينه يفضل ثابت عليها واللي بعيد وعايز يقرب يجتهد وربنا يتوب عليه ويقربه وميبعدش تاني.
فكرة الهيام بالقرب من ربنا أنا مفتقدها لدرجة إني وصلت لمرحلة وقفت مع نفسي وفكرت طيب لو أنا بحاول أسعى واجتهد إني أوصل للمرحلة دي من الراحة والهدوء في ظل العبادة مش بحاول أوصل لربنا نفسه وأقرب منه هو بذاته، أقرب قرب ليه عشانه عشان أنا بحبه مش عشان أوصل تاني للمرحلة دي.
حاولت أشيل الموضوع من دماغي وأسعى إني أبقى مع ربنا عشان ربنا مش عشان حاجة تاني وبردو مش لاقي نتيجة.
دورت كتير وبحثت كتير.
لقيت إنه ممكن سبب من أسباب البعد هيا تربية من ربنا ليا. تربية من نوع اللي هوا عايز يوصلني لمرحلة أنه هو رب وأنا عبد ومهما روحت وجيت فأنا تحت ظل رعايته وحمايته ومحاولش أنسب أي إنجاز لنفسي، ولا أقول أنا عملت أو أنا سويت. لا، أقول: ربنا وفقني وخلاص.
وعيت النقطة وبدأت أطبق الكلام دا وأحاول أجتهد فيه.
بس الموضوع حاسه بيطول أوي وأنا بابعد اكتر.
طالع نازل بصورة مجهدة نفسيا لأقصى حد والله.
اليوم اللي ببقي فيه كويس بابقي أسعد بني آدم في الدنيا، واليوم اللي بابقي فيه بعيد باوصل لمرحلة تفكير في أمور وحشة أوي. وأقول لنفسي معصية بمعصية طب ما أعمل كذا أو أعمل كذا أو أجرب كذا.
نفسيتي بتبقي متدمرة كليا. والله مش ببالغ حرب دايرة جوا مني مش بتهدى دماغي مش بتبطل تفكير ورسم سيناريوهات خيالية لدرجة إني فكرت أروح لدكتور نفسي يشوفني عشان أنا مش مظبوط ليا أكتر من سنة على الحال دا ومفيش تغيير محلك سر والله
بارجع وأقول: يعني أنا عندي ربنا اللي يملك مفتاح قلبي ويقدر بكلمة كُن يرجعني ليه وأبقى أحسن وأفضل، وأروح لحد تاني؟
أقطَّم في نفسي وأقول إزاي أصلا فكرت في كده، لحد ما ييجي يتكرر نفس السيناريو وأعيد تفكير تاني ودوامة مش بتخلص ومش بتهدى.
يعلم ربنا كم الكبت والإحباط اللي جوايا مع كل يوم زي دا بيمر عليا وكل ساعة ولحظة بعديها بابقى قرفان من نفسي لدرجة الموت.
طب وبعدين؟
أقول: يا رب هفضل كدا لإمتى؟ لا يُسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، بس أنا تعبت والله العظيم تعبت.
مش عارف أنا مأفور ومش متقبل طبيعتي البشرية إنه عادي أغلط وعادي أعمل ذنب أو ارتكب معصية ولا أنا فعلا واصل لدرجة وحشة من عدم الثقة في النفس وعدم الشعور بالاستحقاق من ربنا إنه يغفر لي ويقربني منه ولا إيه.
أنا مبقتش فاهم تعبت أوي أوي والله.
قولي اعمل إيه؟
وبالله بلاش كلام تقليدي من نوع حاول تقرب، وحاول تعمل، وحاول ومش عارف إيه.
أنا لما ببقي في الحالة دي مبقدرش أقوم مبقدرش أصلي مش قادر أصلي مش قادر أدعي مش قادر أقول يا رب.
إيه؟
يمكن مشكلتي إني بحاول أفهم؟!
مشكلتي إني فعلا مش راضي وعايز أعرف سبب كل حاجة؟
مشكلتي إني باسعى للكمال اللي عمري ما هوصله؟
مشكلتي إني بحط مناخيري في تصاريف القدر؟
إيه المشكلة؟
عندي أنا؟ أكيد عندي؟ طب أنا بعمل إيه لما أبص لكل اللي حواليا من أقراني وأصحابي وحتى جيلي وطبيعته ع السوشيال ميديا شبهي بالمللي لا زيادة ولا نقص.
كلهم كدا كلهم متذبذبين، كلهم مش ثابتين، كلهم في زيادة ونقصان.
يمكن أنا اللي أوفر وبحاول أوصل فعلا لدرجة عمري لا أنا ولا أي بشري هيوصلها أصلا؟!
مرحبًا بك يا ولدي، وأشكرك جزيل الشكر على ثقتك التي وضعتها فينا، وعلى سؤالك الذي يشفُّ عن قلب حي يملؤه الشوق لله، والحرص العظيم على القرب منه.
لقد أسعدني سؤالك وأبكاني في الوقت نفسه؛ أسعدني لأنه طمأنني بأن أمة محمد ﷺ ما زال فيها شباب تمتلئ قلوبهم بحب الله، وتتعلق أرواحهم بالقرب منه، يبكون من خشية الله، ويحاسبون أنفسهم على التقصير. وأبكاني من فرط رقَّة قلبك، وصدق إحساسك في التعبير عن عمق معاناتك، مما لا يكون إلا من نفس زكيَّة طاهرة.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشرح صدرك، ويُزيل همَّك، ويُفرِّج كربك، وأن يملأ قلبك بنور الإيمان ويقين الاطمئنان، وبعد...
فرسالتك –يا ولدي- ليست مجرد سؤال؛ بل صرخة قلب متعَب، ومناجاة روح حائرة تبحث عن السكينة والوصول، وبوح صادق يخرج من نفس تهفو للاطمئنان، وتحارب قرينتها الأمارة بالسوء، وتُجاهد في سبيل القرب من الله. لقد لمست في كلماتك صدق المحبة، وعمق الألم، وجمال السعي، وإن هذه –والله- لعلامات خير عظيمة قلَّما يُنعم الله بها على أحد من خلقه.
فأبشِر يا ولدي، وأنت الطبيب الذي يرى في كل يوم آيات الله في الخلق، وجمال قدرته في شفاء الأجساد، أبشر لأنك تعيش الآن رحلة فريدة من نوعها، رحلة «شفاء روحك».
أزمة التذبذب:
ولدي الحبيب، إنَّ ما تشعر به –صدقًا- هو شعور الأتقياء الصالحين، وقد عرفتَ أنت بنفسك ذلك، ووصفته بكلماتك، حين ذكرت حديث حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما، الذي فيه أن حنظلة الأسيدي -رضي الله عنه- لقي أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال له: «نافق حنظلة»، ثم ذهبا إلى النبي ﷺ، فقال حنظلة: «يا رسول الله، نكون عندك، تذكّرنا بالنار والجنة، حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا». فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة». [رواه مسلم].
إن هذا الحديث -يا ولدي- يبين لنا ناموسًا إلهيًّا يوافق الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها، ويضع قاعدة إيمانية عظيمة، يطمئن بها قلوب أمثالك، كما طمأن بها قلوب الصحابة، هذا الناموس وهذه القاعدة: «ساعة وساعة»!
أتدري لماذا «ساعة وساعة»؟
لأنّ الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان ضعيفًا، لا يستطيع أن يحمل على كاهله ثقل الاستقامة المطلقة والعبادة المحضة الدائمة على مدار الساعة. إن القلب البشري لا يتحمل أن يكون في قمة الشوق والخوف والخشوع دائمًا، مثلما لا تتحمل العين أن تُحدِّق في الشمس دون انقطاع.
أنت يا ولدي تسعى للوصول إلى مرتبة الأنبياء، الذين كان قلبهم معلقًا بالله في كل لحظة، وهذا طموح عظيم ومبارك، ولكنه قد يُصيبك باليأس والانتكاس إذا لم تفهم طبيعة النفس البشرية.
إنّ الله -سبحانه وتعالى- يعلم ضعفنا، ويعلم أننا نُذنب ونُخطئ ونقصر، لذلك فتح لنا باب التوبة على مصراعيه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الزمر: 53].
فإذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فكيف يكون باب التوبة مفتوحًا؟ وكيف تكون هناك مغفرة؟ المغفرة والتوبة وُجدتا لأن هناك تقصيرًا، وهذا التقصير يقتضي نقصان الإيمان لا شك، والعكس صحيح.
«الطمع في الله» صفة الخواص
أنت تقول: «أنا طماع. أنا عايز أوصل لمرحلة الخواص اللي هما بيخافوا من القطيعة بينهم وبين ربنا وبيشتاقوا للإنس بالله». وهذه والله أعلى درجات المحبة.
يا ولدي، إن هذا الشوق الذي تتحدث عنه هو هبة من الله لك لا يعطيها إلا لقليل من عباده، فكم من الناس مَن يمر عليهم العمر لا يشعرون بهذا الألم ولا يكابدون هذا الشوق؟ وشعورك ببعدك عن الله، وتألمك من تقصيرك، ورغبتك في أن تكون أقرب، هو في ذاته الدليل على قربك من الله.
وقد سمعت أحد السالكين إلى الله يقول: إن أعظم علامات محبة الله للعبد أن يبتليه بشوق لا يُشفى منه، ولا يخفت لديه، وهو الشوق إلى الله».
إنك –يا ولدي- مُبتلى بهذا الشوق الذي يُقلقك، ويُسهرك، ويُحركك. ولو لم يكن الله يُحبك، لما ألقى في قلبك هذا الشوق.
تصاريف القدر وتربية الله
تقول: «دورت كتير وبحثت كتير لقيت إنه ممكن سبب من أسباب البعد هيا تربية من ربنا ليا».
نعم يا ولدي، هذه هي الفكرة التي يغفل عنها كثيرون؛ أن الله لا يُعطينا كل شيء دفعة واحدة؛ بل يُربِّينا مثلما يُربِّي الأب ابنه، فهو لا يُعطيه كل خبرة الحياة دفعة واحدة؛ بل يتركه يجرب، ويخطئ، ويتعلم. وهذا التذبذب الذي تشعر به هو جزء من هذه التربية الإلهية.
هو سبحانه يُريدك أن تتعلم أنك مهما بلغت من العلم والعبادة، فإن الفضل كله منه. يريدك أن تدرك أنك لا تستطيع أن تفعل أي شيء إلا بتوفيقه، وقد قال عز وجل: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ﴾ [سورة النور: 21].
فلا تقل: «أنا عملت»؛ بل قل: «الله وفَّقني». لا تقل: «أنا اجتهدت»؛ بل قل: «الله أعانني».
إنّ هذه الحالة التي تعيشها، هي «تمرين» إلهي على التواضع والافتقار إلى الله، وهو جوهر العبودية.
متلازمة الكمال
تقول: «اليوم اللي بابقي فيه كويس بابقي أسعد بني آدم في الدنيا، واليوم اللي بابقي فيه بعيد باوصل لمرحلة تفكير في أمور وحشة أوي... حرب دايرة جوا مني».
هذه الحرب ليست وهمًا يا ولدي؛ بل هي حقيقة، وهي من عمل الشيطان.
الشيطان لا يترك المؤمن في حاله، إنه يُسخِّر كل جهده ليوقعه في اليأس. عندما يرى قلبك متعلقًا بالله، يُحاول أن يوسوس لك بالذنب واليأس، ليُفقدك الثقة بنفسك، وفي رحمة ربك. ولكن تذكر أنّك تُحارب الشيطان، وهذا شرف عظيم.
إن ما تعانيه هو ما يسميه علماء النفس «متلازمة الكمال»، وهو البحث عن المثالية التي لا يمكن الوصول إليها. أنت تسعى إلى الكمال البشري الذي لا وجود له، وهذا يجعلك تعاني كلما شعرت بالنقص أو التقصير.
الإنسان ليس معصومًا يا بني، والذنب ليس علامة على انعدام الخير في القلب، بل قد يكون فرصة للتوبة والعودة. يقول النبي ﷺ: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون». [رواه الترمذي].
ويقول أيضًا ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ» [رواه مسلم].
إنّ الله يُحب أن يسمع صوتك وأنت تقول: «يا رب أذنبت، فاغفر لي»، وما أجمل أن تقر لله بعجزك وضعفك، وتعترف بتقصيرك، إنه من أعلى درجات العبودية.
الانقطاع قمة المحنة
تقول: «أنا لما بابقي في الحالة دي مبقدرش أقوم، مبقدرش أصلي، مش قادر أصلي، مش قادر أدعي، مش قادر أقول يا رب». وهذه هي قمة المحنة، وهي أصعب مراحلها. ولكنها ليست نهاية الطريق؛ بل هي بدايته.
فعندما تشعر أنك لا تستطيع، تذكر أن الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، وأنك لست بحاجة إلى أن تصلي ركعتين طويلتين، أو أن تطيل الدعاء، أو أن تفعل أي شيء قد لا تستطيع فعله في هذه الحالة. فالله يا بني لا يُريد منك الجهد والصورة؛ بل يُريد منك قلبك. قال في ذبح الهدي: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ [الحج: 37]، وهو كذلك في كل العبادات.
تصحيح مفهوم الاستقامة
إنك يا بني بحاجة لتصحيح مفهومك عن الاستقامة والعبادة؛ لأن ما تشعر به من تذبذب قد يكون سببه حصرك للعبادة في الصلاة والصوم والذكر وغيرها من العبادات المحضة فقط.
إن الاستقامة والعبادة لا تعنيان الانقطاع عن الحياة؛ بل هما منهج حياة متكامل. إن الله -سبحانه وتعالى- لا يريدك أن تكون راهبًا حبيسًا في المحراب؛ بل يريدك عبدًا صالحًا في كل أوقاتك وأحوالك.
إن الله -سبحانه وتعالى- وسّع مفهوم العبادة ليشمل كل ما تقوم به في حياتك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة». فماذا يعني ذلك؟
يعني أن كل عمل صالح تقوم به في حياتك، إذا استحضرت فيه النية الصادقة، يصبح عبادةً تُؤجر عليها. دراستك للطب وعنايتك بمرضاك، وسهرك على راحتهم، كل هذا يمكن أن يتحول إلى عبادة خالصة إذا نويت به إحياء النفس التي خلقها الله، والتخفيف عن آلام عباده، وطلب الرزق الحلال لإعفاف نفسك وأهلك.
فاجعل من عملك عبادة، ومن نومك عبادة، ومن جلوسك مع أهلك عبادة. عندما تصبح حياتك كلها لله، فلن تشعر بهذا التذبذب، لأنك ستكون في عبادة دائمة.
هكذا تكون حياة المؤمن، كل شيء فيها هو في سبيل الله، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام: 162].
ماذا تفعل؟
سألتني: «أعمل إيه»، وأنا لن أقول لك كلامًا تقليديًّا مما قد تتوقعه؛ لكني سأحاول –مستعينًا بالله- أن أرشدك إلى بعض الخطوات العملية البسيطة، حتى تخرج من هذه الحالة، وتفعلها كلما عاودتك:
1- اسجُد فقط:
عندما لا تستطيع الصلاة، اسجد لله على الأرض، اسجد فقط، وقل: «يا رب، أنا هنا، لا أملك شيئًا، ارحمني»، وناجه وبث إليه أي كلمات تخطر على بالك، وحتى لو لم تجد كلمات، اسجد صامتًا ودع قلبك يناجي، ودموعك تتحدث. يقول النبي ﷺ: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء». [رواه مسلم].
2- استعن بربك:
لا تُحمِّل نفسك مسؤولية «الكمال»؛ بل اترك الأمر لربك، وقل: «يا رب، أنت ربي، وأنا عبدك، أنت تُحيي وتميت، وأنت من يُصلِح قلبي»، حتى في أضعف لحظاتك، فكِّر بعقلك في قدرته، في رحمته، في حبه، في عظمته، في خلقه، في تدبيره.
عندما تشعر بالعجز، لا تقل: «سأحاول أن أُصلي أو أن أفعل كذا»؛ بل قل: «يا رب، أنا عاجز عن الصلاة، أو عن فعل كذا، فأعنِّي»، متحققًا بقوله سبحانه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [سورة الفاتحة: 5].
3- تنويع الأعمال:
عندما يثقُل عليك القيام بالعبادات المحضة، لا تستسلم؛ بل انتقل إلى أنواع أخرى من العبادات التي قد تجد فيها راحة لقلبك. تذكر أن العبادة ليست حصرًا على الصلاة والصيام. فالله -سبحانه وتعالى- فتح لك أبوابًا كثيرة للقرب منه. يمكنك أن تشغل نفسك ببرّ الوالدين، اذهب واجلس معهما، وقبِّل أيديهما، واسألهما عن أحوالهما، ففي هذا القرب أعظم القربات. أو اخرج لصلة رحمك، اتصل بأقاربك، واسأل عنهم، فإن صلة الرحم تزيد في الرزق وتطيل في العمر. أو انتقل إلى الإحسان للخلق: تفقد جارك المسن، أو ساعد محتاجًا، أو أطعِم حيوانًا، فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين. وكذلك إحسان العمل وإتقانه، فاجتهد في دراستك وعملك، وأتقِن ما تقوم به، فإنّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه.
والأهم من ذلك كله تصفية القلب، انظر في قلبك، واعفُ عمَّن ظلمك، وادعُ لمن أساء إليك، فإنّ سلامة القلب من أعظم العبادات التي تقربك من الله وتطهر روحك.
4- لا تنزل عن الحد الأدنى
ولدي الحبيب، إن أداء الفروض هو الحد الأدنى الذي يجب أن تتمسك به في أوقات الفتور والتذبذب، ولا تنزل عنه أبدًا. فإذا عجزت عن النوافل، فلا تترك الفروض أبدًا. فلا أقل من الصلوات الخمس التي هي عماد الدين، فهي حبل النجاة الذي لا ينقطع.
وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّ لِكُلِّ عملٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فترةٌ، فمنْ كان فترتُهُ إلى سنتي فقدِ اهتدى، ومَنْ كانَتْ إِلى غيرِ ذَلِكَ فقدْ هَلَكَ». [رواه أحمد]. و«الشرة» هي النشاط والحماس والاندفاع والاجتهاد، وهي المرحلة التي تعيشها عندما يكون إيمانك في أوجه. أما «الفترة» فهي الفتور والضعف والتراجع والخمول، وهي الحالة التي تشعر بها الآن.
النبي ﷺ كأنه يتحدث إليك في هذا الحديث، يُعلِّمك أن هذه طبيعة بشرية، لا مفر منها. كل إنسان يمرّ بفترة نشاط يتبعها فترة فتور. ولكن التوفيق أو عدمه يكمن في كيفية تعاملك مع هذه الفترة. فإذا كان فتورك إلى «سنتي» أي إلى التمسك بالفرائض التي هي أساس الدين، والاقتصاد في العبادة والتوسط، فإنك في أمان. فلا تترك أبدًا صلواتك الخمس، ولو كنت تُصليها وأنت في أضعف حالاتك، فإنها تُنجيك من الضلال وتُبقي لك حبلًا موصولًا بربك.
يا ولدي، لا تُقلِّل من شأنك، أنت طبيب، تدرس حياة الناس، وتتعلم كيف تشفي أجسادهم، فأنت أقدر إن شاء الله على علاج نفسك وشفائها.
والخلاصة يا بني، أن مشكلتك ليست نقص إيمان أبدًا؛ بل في فهمك لطبيعة الإيمان وطبيعة البشر.
أنت لست «مُبالغًا»، أنت «شغوفٌ» بالقرب من الله.
أنت لست «مريضًا»؛ أنت «مُجاهد» في سبيل الله.
أنت لست «مخطئًا»، أنت «مُتعلم» على يد ربك.
أما عن أقرانك الذين تراهم على وسائل التواصل، فلا تُقارن نفسك بأحد. إن كل إنسان له حربه الخاصة، وجهاده الداخلي. ولا أحد يعلم ما في القلوب إلا الله.
وختامًا يا ولدي، إنّ سعيك هذا هو إشارة عظيمة، فلو لم يكن الله يُريدك أن تعود، لما ألقى في قلبك هذا الشوق.
لقد قطعت شوطًا كبيرًا، ووصلت إلى مراحل عميقة من فهم نفسك، وفهم طبيعة العلاقة مع الله. إن إجابتك على نفسك بأنها «تربية من ربنا» هي إجابة الحكماء والعارفين.
فثق بالله، وتوكل عليه، ولا تيأس من رحمته. لا تُعطِ للشيطان الفرصة لِيُقنِعك بأنك لست أهلًا للقرب. إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب كل من يتألم في سبيله.
يا ولدي، لا تسأل «إلى متى؟»؛ بل اسأل: «هل أنا في الطريق؟».
ونعم، أنت في الطريق، والله معك، ولن يَتِرَك عملك أبدًا، وأبشر بوعد الله: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وبشرى رسوله: «والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ» [رواه أحمد].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى، أن ينير قلبك بنور الإيمان، وأن ييسر لك كل عسير، وأن يجعل حبك لله أعظم من حبك لكل شيء، وأن يجعل شوقك إليك يفوق كل شوق، وأن يعينك على نفسك، ويثبت أقدامك، ويجعلك من خواصه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن يرزقك قلبًا خاشعًا، ونفسًا مطمئنة، وروحًا تهفو إلى لقائه، وأن يجعلك قرة عين لوالديك، ومَنارة خير لأمتك، وسببًا في شفاء الأجساد والأرواح. اللهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وتابعنا بأخبارك.