الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
81 - رقم الاستشارة : 2631
07/09/2025
أعيش في حي شعبي، وأرى كل يوم أمامي صورًا لا تنتهي من المحتاجين: جار مريض لا يجد ثمن علاجه، عائلة فقيرة لا تملك قوت يومها، أرملة وحيدة تكافح لتربية أيتامها، وشاب عاجز عن الزواج لضيق يده.
أقسم لكم أنني أتمنى أن أمد يدي لكل واحد منهم، وأن أُسعفهم جميعًا، لكن دخلي بالكاد يكفي لسد حاجة أسرتي.
أحاول أن أقدم القليل الذي أستطيعه أحيانًا، كأن أُعطي صدقة بسيطة لأحدهم، أو أسأل على جار مريض، لكن هذا الشعور بالعجز والتقصير يلاحقني ولا يتركني.
كيف أتعامل مع هذا الشعور المؤلم؟ وما الذي يمكنني عمله لهؤلاء الناس لأشعر بالراحة؟
جزاكم الله خيرًا.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وشكر الله لك هذه النفس الطيبة التي تحمل همَّ الناس. أسأل الله أن يبارك لك في رزقك، ويوسع عليك، وأن يجعل في قلبك رحمةً ونورًا، وأن يجزيك خير الجزاء على شعورك النبيل، وبعد...
الشعور بالمسؤولية رحمة وابتلاء
أخي الفاضل، إن شعورك هذا ليس عجزًا أو تقصيرًا، بل هو دليل على حياة قلبك، وعلى أن في نفسك من الخير الكثير. إن شعورك بالمسؤولية تجاه المحتاجين، وألمك لحالهم، هو في حقيقة الأمر رحمة وضعها الله في قلبك. وهذا الشعور هو ابتلاء في ذاته، لكنه ابتلاء جميل، يرفعك عند الله درجات، ويقربك إليه، لأنه يدفعك للتفكير في الآخرين، وللسعي في قضاء حوائجهم.
إن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلقنا لنسد حاجاتنا فقط؛ بل لنكون كالجسد الواحد، وهذا ما وصفه النبي ﷺ بقوله: «مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري].
وإن قصص الأنبياء والصالحين مليئة بمواقف العطف على الضعفاء، وهذا نبينا محمد ﷺ كان أرحم الناس بالناس، وكان يعيش شعورك هذا كل لحظة. كيف لا وهو الذي قال عنه الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
كيف تتعامل مع هذا الشعور المؤلم؟
شعورك بالألم أمر طبيعي وإنساني؛ لكن التعامل معه يجب أن يكون بشكل إيجابي، لا أن يتحول إلى يأس أو إحباط. وإليك بعض الخطوات لتخفيف هذا الشعور، والتحول به إلى طاقة إيجابية:
1- النية الصادقة والجهد المتاح:
الله -عز وجل- لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وهو يعلم أن دخلك محدود، وأنك بالكاد تسد حاجة أسرتك. لذلك، لا يحملك ما لا تطيق؛ بل ينظر إلى نية قلبك الصادقة، ورغبتك في الخير، هذه النية وحدها ترفعك عند الله. يقول النبي ﷺ: «إنَّما الأَعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» [رواه البخاري].
يكفي أن تنوي الخير بقلبك، والله يكتب لك أجر ما نويت، فإذا تصدقت بالقليل الذي تستطيعه، فالله -سبحانه- يتقبله منك ويضاعفه، يقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20].
2- استثمر في الخير المعنوي:
الصدقة ليست فقط بالمال. فهناك أعمال خير عظيمة قد لا تكلفك مالًا؛ لكن أجرها عند الله عظيم، مثل:
- التفقد والسؤال: مجرد سؤالك عن جارك المريض هو صدقة. زيارتك له ومواساتك، وتطييب خاطره، قد تكون أفضل من مال كثير. يقول النبي ﷺ: «إِنَّ رَجُلاً زَارَ أَخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخاً لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّهُ فِي اللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» [رواه مسلم].
- التشجيع والتوجيه: إذا رأيت شابًّا عاجزًا عن الزواج، فربما يمكنك أن تشجعه، أو أن تدله على عملٍ مناسب، أو أن تعرِّفه على أهل الخير الذين قد يساعدونه، أو على بيت طيب يتزوج منه ولا يحمله فوق طاقته.
- رفع المعنويات: كلمة طيبة منك لأرملة تكافح، أو لعائلة فقيرة، قد ترفع من معنوياتهم وتعطيهم أملًا في الحياة. يقول تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ [البقرة: 263].
- الدعاء: إن دعاءك لأمثال هؤلاء بظهر الغيب هو من أعظم الصدقات. فالدعاء يغير الأقدار، وربما دعوة صادقة منك تفتح لهم أبواب الرزق، وتخفف عنهم بلاءهم.
3- كن وسيط خير:
أنت الآن بحكم مكانتك، كأنك جسرٌ يربط بين المحتاجين وبين من يملك المال. تستطيع أن تكون عيونهم وقلوبهم وأصواتهم لدى الأغنياء. فإذا علمت بحالة محتاجة، أو مبتلاة، ففكر: هل تعرف من يملك المال فتحدثه عن هذه الحالات؟ هل تعرف جمعيات خيرية فترشدهم إلى هذه الأسر؟ هل تستطيع أن تنشر قصصهم (بشكل يحفظ كرامتهم) بين من تثق بهم من أهل الخير، ليساعدوهم؟
4- تذكر نعمة الله عليك:
رؤيتك واختلاطك بأصحاب الابتلاءات وذوي الاحتياجات، يذكرك دائمًا بنعمة الله عليك، لتحمده وتشكره. فأنت وإن كان دخلك محدودًا، فإنك -بحمد الله- قادر على إعالة أسرتك، فانظر إلى من هم أقل منك حالًا، لتشعر بالراحة والامتنان. بعض الناس لا يجد قوت يومه، وبعضهم لا يملك سقفًا يأويه. يقول النبي ﷺ: «انْظُرُوا إلى مَن هو أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ؛ فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ علَيْكُمْ» [رواه مسلم]، وهذا الامتنان لله يمنحك القوة لمواجهة شعور العجز.
وختامًا أخي الحبيب، لا تستهن بما تقدمه من القليل، فربما تكون هذه الصدقة البسيطة التي تقدمها، أو هذه الكلمة الطيبة التي تقولها، هي الأثقل في ميزان حسناتك. استمر في طريقك هذا، واعلم أن الله معك، ينظر إلى نيتك الطيبة، ويعلم صدق قلبك. إن شعورك هذا نعمة، فاجعله حافزًا لك لتكون رسول خير ونور في مجتمعك، ولتكن مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر. وفقك الله وسدد خطاك، وجعل لك من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.