كيف أوازن بين صلة الرحم وسلامتي النفسية مع المسيئين؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 132
  • رقم الاستشارة : 2184
24/07/2025

أجد نفسي حائرًا في كيفية التعامل مع بعض أرحامي الذين يسيئون إليَّ بالكلام والتصرفات رغم محاولاتي المتكررة للتعامل معهم باللين والهدوء.

أشعر في كل زيارة لهم بأنني أعود منكسرًا، وتتكدَّر نفسي بسببهم لأيام بعدها.

لا أريد قطيعتهم، ولكنني فعلًا تعبت منهم.

فما الحد الذي تبرأ به ذمتي شرعًا في صلتهم دون أن أدخل معهم في أمور تؤذيني نفسيًّا؟

وهل لي أن أكتفي بالدعاء أو بالسلام السريع عبر الهاتف دون زيارات؟

الإجابة 24/07/2025

مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وأسأل الله أن يشرح صدرك، وييسر أمرك، ويجعل لك من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وأن يلهمك الرشاد والصواب، وبعد...

 

يا بُني، إنها لمسألة دقيقة تلك التي تجمع بين عظيم حق الأرحام، وضرورة الحفاظ على سلامة النفس وطمأنينتها. ولكن اعلم أن ديننا الحنيف، دين الرحمة واليسر، ما جاء ليشقى به أحد؛ بل جاء ليُسعدَ ويُصلحَ، ويرفعَ الحرجَ عن عباده.

 

نعم، إن صلة الرحم من أعظم القربات وأجلّ الطاعات التي أمر بها الله –تعالى- ورسوله الكريم ﷺ. إنها رباط مقدس، يمتد من عرش الرحمن، كما جاء في الحديث القدسي الشريف: «الرَّحِم مُعلَّقة بالعَرش تقول: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ اللَّه، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعه اللَّهُ» [رواه البخاري]. وهذا يدل على عظيم شأنها، وأن وصلها سبب لوصل الله لعبده، وقطعها سبب لقطع الله له.

 

ولقد أمرنا الله –تعالى- بصلة الأرحام في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، منها قوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]. فقرن سبحانه حق الأرحام بحقه، وهذا دليل على مكانتها العظيمة في ديننا.

 

كيف نتعامل مع إساءة الأرحام؟

 

يا بُني، إن ما تواجهه من إساءة بالقول والتصرفات من أرحامك، رغم تعاملك الحسن معهم، هو بلاء عظيم، ولكنه أيضًا فرصة لأجر عظيم. فليس الواصل من يكافئ الإحسان بالإحسان فحسب، بل الواصل حقًّا هو من يصل من يقطعه، ومن يحسن إلى من يسيء إليه. يقول النبي ﷺ: «ليس الواصل بالمكافِئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها» [رواه البخاري]. وهذا الحديث يرسم لنا صورة عظيمة للواصل الحقيقي الذي يتجاوز الإساءة ويصبر عليها.

 

لقد أرشدنا القرآن الكريم إلى منهج عظيم في التعامل مع الإساءة، وهو منهج دفع السيئة بالحسنة. يقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]. وهذا المنهج يحتاج إلى صبر عظيم، وعفو جميل.

 

فالعفو والتجاوز عن أخطاء الآخرين، خصوصًا الأقارب، هو من صفات المؤمنين الصادقين، ومن عزم الأمور التي تحتاج إلى قوة نفسية وإيمانية. يقول تعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43].

 

إن شعورك بالانكسار وتكدُّر النفس بعد كل زيارة هو أمر طبيعي، ودليل على نقاء قلبك وحساسيتك. ولكن تذكر أن صبرك على أذاهم واحتسابك الأجر عند الله هو ما يرفع درجاتك ويمحو سيئاتك. إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينسى صبر الصابرين.

 

حد الصلة الذي تبرأ به الذمة شرعًا:

 

يا بني، لم يكلفنا الله ما لا نطيق. إن صلة الرحم لا تعني أن تُعرِّض نفسك للأذى النفسي المستمر، أو المشادات التي تضر بسلامتك. إن الهدف الشرعي من الأمر بصلة الرحم هو دوام الود، وعدم القطيعة، والسؤال عن الحال، والمشاركة في الأفراح والأتراح بقدر المستطاع.

 

إذا كانت الزيارات المباشرة تسبب لك أذى نفسيًّا بالغًا وتكديرًا يدوم لأيام، فإن الشرع يرفع عنك الحرج بتقليل هذه الزيارات، أو تغيير طبيعتها بما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة. القاعدة الشرعية تقول: «لا ضرر ولا ضرار». فلا يجوز لك أن تضر نفسك، ولا أن تضر غيرك.

 

والحد الذي تبرأ به ذمتك هو ألا تقطعهم تمامًا، وأن تحافظ على شعرة من التواصل تمنع القطيعة التامة. هذا الحد يختلف باختلاف الأشخاص والظروف، ولكن يمكن أن يشمل:

 

السلام عليهم: سواء كان ذلك بالزيارة السريعة التي لا تتخللها مشادات، أو بالسلام عبر الهاتف.

 

السؤال عن أحوالهم: بين حين وآخر للاطمئنان عليهم.

 

المشاركة في المناسبات الكبرى: كالأعياد والوفيات والأفراح، حتى لو كانت مشاركة رمزية لا تستدعي الاحتكاك المباشر المطول.

 

الدعاء لهم: وهذا من أعظم صور الصلة، أن تدعو لهم بالهداية وصلاح الحال، وأن يكف الله عنهم الأذى.

 

هل يجوز الاكتفاء بالصلة عبر الهاتف دون زيارات؟

 

نعم، يجوز ذلك يا بني، خصوصًا إذا كانت الزيارات المباشرة تؤدي إلى ضرر نفسي بالغ لك، أو إلى مشادات لا طائل منها. إن الإسلام يراعي ظروف العباد وقدراتهم. فإذا كان التواصل الهاتفي أو الرسائل أو حتى السلام العابر في المناسبات العامة يحقق وصل الرحم ويمنع القطيعة، فهو كافٍ لإبراء الذمة في مثل حالتك.

 

المهم هو أن يبقى باب التواصل مفتوحًا، وألا تكون هناك قطيعة تامة. فإذا كنت تتصل بهم هاتفيًّا بين فينة وأخرى، وتسأل عن أحوالهم، وتدعو لهم، وتشاركهم في بعض المناسبات الضرورية، فقد أديت ما عليك وبرئت ذمتك، ولم تدخل في باب القطيعة المحرمة.

 

وختامًا يا بني، لا تيأس من رحمة الله وفضله. إن سعيك لوصل رحمك رغم الأذى هو جهاد عظيم، وأجره عند الله لا يضيع.

 

استمر في الدعاء لهم بالهداية، ولنفسك بالصبر والثبات. اجعل علاقتك بالله هي الملجأ والملاذ، فهو –سبحانه- القادر على أن يغيِّر القلوب، وأن يجعل لك من كل ضيق مخرجًا. ثق بأن الله معك، ولن يخذلك أبدًا. حفظك الله ورعاك.

الرابط المختصر :