الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
99 - رقم الاستشارة : 2510
27/08/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الدكتور/ الشيخ أشكركم على وقتكم.
لدي استفسار حول مسألة روحية وسلوكية عميقة وردتني، وأود أن أتوسع في فهمها على ضوء العلم الشرعي وتجارب السلف.
النص هو: «كثير من المجادلين لا يدركون خطورة الجدال على القلب، لذا يحيط بهم الغبار، ولا يرون السماء، بل ويظنون أنه أثر فرس الجهاد! إنها ظلمات بعضها فوق بعض».
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الكريم، وشكرًا لثقتك التي تضعها فينا لمناقشة هذا الأمر الذي يمس جانبًا روحيًّا وسلوكيًّا مهمًّا في حياتنا. أسأل الله أن يفتح علينا وعليك من واسع فضله، وأن ينير قلوبنا بنور الحق والحكمة، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبعد...
إن النص الذي أوردته يا أخي، يحمل في طياته حكمة بالغة ورسالة عميقة لكل من يخوض في نقاش أو جدال، دون إدراك للمخاطر المحدقة بقلبه وروحه. إنه تصوير بليغ لحالة القلب الذي يقع في فخ الجدال المذموم، فيتحول الجدال من وسيلة لطلب الحق إلى غاية في ذاته، ما يؤدي إلى حجب صاحبه عن رؤية الحقيقة والنور.
الجدال ممدوح ومذموم
ليس كل جدال مذمومًا، فالقرآن الكريم والسنة النبوية يوضحان لنا نوعين من الجدال، لكل منهما أحكامه وسماته:
- الجدال الممدوح: هو الجدال الذي يكون هدفه إظهار الحق، ونصح الخَلق، وإزالة الشبهات، والوصول إلى الحقيقة دون تعصب أو هوى. هذا النوع من الجدال واجب على من يملك العلم والحكمة، وهو محكوم بالآداب والأخلاق الإسلامية، كالحلم، واللطف، والتجرد من الهوى. وقد أمر الله به في كتابه الكريم: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]. فالجدال هنا وسيلة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ما جادلتُ أحدًا قطُّ إلا تمنيتُ أن يظهره اللهُ على الحقِّ». هذه هي الروح التي ينبغي أن يتحلى بها طالب الحق، وهي روح التواضع والإنصاف.
- الجدال المذموم: هو الجدال الذي يغفل صاحبه عن نية القلب وما يعتريها من أمراض خفية، مثل حب الانتصار للذات، والتعالي على الآخر، والحرص على إظهار التفوق، لا الحقيقة. هذا النوع من الجدال هو الذي يُحدث «غبارًا» كثيفًا يحجب القلب عن رؤية «السماء» أي النور الإلهي والحق الصافي. وقد حذَّر منه النبي ﷺ بقوله: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» [رواه الترمذي].
أضرار الجدال المذموم:
والجدال الذي أشار إليه النص الذي أوردته، هو الجدال المذموم الذي يوقع القلب في فخاخ الشيطان، ومن أضراره:
1- غبار يغطي القلب ويحجب الرؤية: يشير الغبار في النص إلى كدر القلب الذي ينتج عن الجدال بغير حق. عندما يجادل الإنسان لا لطلب الحق، بل لإثبات رأيه، فإن قلبه يمتلئ بالشوائب من الكبر والعجب. هذا الغبار يمنعه من رؤية الأمور على حقيقتها، فلا يرى الحق وإن كان واضحًا، ولا يقبل النصح وإن كان صوابًا.
2- ظلمات بعضها فوق بعض: هذا تعبير قرآني بليغ ورد في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 40]. يصف هذا المشهد حالة القلب الذي يغرق في الجدال المذموم. تبدأ الظلمة الأولى بجدال الحق بالباطل، ثم تأتي الثانية بإنكار الحقيقة بعد ظهورها، ثم الثالثة بالكبر والعناد، حتى يصبح القلب في حالة لا يستطيع معها التمييز بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر.
الجدال المذموم ليس جهادًا!
من أعمق النقاط التي يطرحها النص هي أن بعض الناس قد «يظنون أنه أثر فرس الجهاد!». وهذا التوهم خطير جدًّا؛ لأنه يلبس الباطل ثوب الحق. إن الجهاد في سبيل الله هو قمة العطاء والتضحية، وهو إعلاء لكلمة الله ونصرة للحق. أما الجدال المذموم فهو أثر للنفس الأمارة بالسوء، ولحب الذات، ولطلب الشهرة، وليس له علاقة بالجهاد في شيء.
الفرق بينهما كالفرق بين الليل والنهار، فالمجاهد يقاتل في سبيل الله، ومقصده رضا الله، بينما المجادل المذموم يقاتل في سبيل هواه، ومقصده رضا نفسه. وقد حث النبي ﷺ على ترك الجدال المذموم، حتى وإن كان الإنسان على حق، فقال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» [رواه أبو داود].
والسيرة النبوية -على صاحبها الصلاة والسلام- وحياة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، تمتلئ بنماذج رائعة من الجدال الممدوح، وترك الجدال المذموم، يضيق المقام هنا عن ذكر أمثلة لها، لكن يمكنك البحث أخي على الشبكة العنكبوتية وستجد عشرات الأمثلة.
نصائح عملية للتخلص من الجدال المذموم
للتخلص من هذه العادة السيئة، علينا أن نتذكر دائمًا أن الجدال المذموم مرض له علاج، وأن الطريق إلى النجاة يبدأ بالوعي والاعتراف.
1- تجديد النية وتصحيحها:
قبل أن تخوض في أي نقاش، اسأل نفسك: لماذا أتحدث؟ هل أبحث عن الحق أم عن إظهار نفسي؟ هل أريد الهداية لمن يجادلني أم أريد قهره؟ إن تصحيح النية هو أول خطوة نحو التخلص من الجدال المذموم.
2- التواضع وطلب الحق:
إن المؤمن الحق هو من يسعى للحق أينما وجده، على لسان مَن كان.
3- الصمت والسكينة: إن الصمت في وجه الجدال المذموم هو خير من الكلام، وهو من سمات المؤمنين. فقد كان رسول الله ﷺ يدعو إلى ترك الجدال حتى ولو كان الإنسان على حق، كما ورد في حديثه المذكور آنفًا.
وختامًا أخي العزيز، تذكَّر أن الهدف من النقاش ليس الانتصار على الآخر، بل الوصول إلى الحقيقة، وتذكير نفسك بأن الجدال المذموم ليس قوة، بل قمة الضعف. وأن الصمت ليس استسلامًا؛ بل يكون حكمة في كثير من الأحيان.
أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياك الحكمة، وأن يجعلنا من أهل الحق الثابتين عليه. ونسعد دائمًا بتواصلكم معنا.