الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
144 - رقم الاستشارة : 2226
30/07/2025
أنا عم حاول قدر الإمكان أكون متواضع، وعم خبّي عباداتي بيني وبين ربي، وبتعامل مع الكل بلطف ومحبة. بس بصراحة، عم لاحظ جوّا حالي إحساس خفي إني أحسن من غيري دينيًا، حتى لو ما بيّنت هالشي لحد. هالشي كتير مضايقني ومخليني شكّ بصفاء قلبي.
طيب، هاد كبر؟
وشو ممكن أعمل لأعالج هالخطر الخفي يللي عم يفسدلي أعمالي من غير ما حس عليه؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا ومراسلتك إيانا، وأسأل الله –سبحانه- أن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يرزقك الإخلاص في القول والعمل، وأن يطهر باطنك وظاهرك من كل شائبةٍ تفسدُ عليك صلاح قلبك، وبعد...
فما تعانيه -أخي العزيز- هو صراعٌ خفيٌّ يخوضه كل سالكٍ إلى الله، بين النفس الأمارة بالسوء التي تميل إلى العُجب والكِبر، والنفس اللوامة التي تدفعك نحو محاسبة ذاتك وتصحيح مسارك. وهذا طبيعي جدًّا وسُنَّة من سنن الله فينا، لكن المهم هو إدراك هذا الخطر، والسعي الجاد للتخلص منه، وهذا ما شعرت أنك تسعى إليه بصدق، وتلك علامة خير كبير، ثبتك الله عليه.
هل هذا كِبر؟
أخي الفاضل، إن شعورك بأنك «أحسن» من غيرك دينيًّا، حتى وإن لم تظهره، هو بذرةٌ من بذور الكبر. فالكبر ليس فقط في إظهار التعالي على الناس؛ بل هو أيضًا في استعظام النفس ورؤيتها فوق الآخرين في السر والخفاء. يقول النبي ﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، قيل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» [رواه مسلم].
وقوله ﷺ: «وغمط الناس» يعني احتقارهم وازدراءهم والتقليل من شأنهم. فحتى وإن كنتَ لا تحتقرهم ظاهرًا، فإن شعورك بالاستعلاء عليهم دينيًّا هو شكلٌ من أشكال هذا الغمط الخفي. إنه شعورٌ نابعٌ من مقارنة نفسك بالآخرين، وهي مقارنةٌ لا تليق بقلبٍ مؤمنٍ يتطلع إلى وجه الله الكريم.
كيف تعالج هذا الخطر الخفي؟
يا أخي، إن علاج هذا الداء الخفي يحتاج إلى مجاهدةٍ عظيمةٍ، وإلى الاستعانة بالله تعالى، فهو وحده المقلب للقلوب، وهو القادر على تطهيرها. وإليك بعض الخطوات العملية التي تعينك على ذلك:
1- إدراك حقيقة العبودية والافتقار إلى الله:
إن أول خطوةٍ في علاج الكبر هي تذكر من نحن حقيقةً. نحن عبيدٌ لله فقراء إليه، لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. كل ما نحن فيه من خيرٍ وطاعةٍ هو محض فضلٍ من الله ومنةٍ منه سبحانه. تذكَّر قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].
لا تنظر إلى عملك على أنه من كسبك وقوَّتك؛ بل انظر إليه على أنه توفيقٌ من الله وهدايةٌ منه. فوالله لو وكلنا الله إلى أنفسنا لحظةً، لتُهنا وضللنا. إن هذا الشعور بالافتقار إلى الله يذيب الكبر في القلب.
2- التفكر في الذنوب والعيوب الخفية:
بدلاً من مقارنة نفسك بغيرك ورؤية عيوبهم، انشغل بالبحث عن عيوبك أنت وذنوبك الخفية التي لا يعلمها إلا الله. كلما ازداد اطلاعك على تقصيرك، نقص شعورك بالكمال. يقول النبي ﷺ: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» [رواه البزار].
قد تكون عباداتك الخفية التي تخفيها هي نعمةٌ عظيمةٌ، ولكن قد يكون في باطنك أمراضٌ أخطر لا تراها. تذكَّر أن الله لا ينظر إلى صورنا وأعمالنا؛ بل ينظر إلى قلوبنا. يقول النبي ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم].
3- تذكر الخاتمة والمصير:
لا أحد يعلم كيف ستكون خاتمته. قد يكون من تظنه أقل منك اليوم، أفضل عند الله غدًا، وقد يختم له بخيرٍ لا تعلمه. وهذا يدعونا إلى التواضع وعدم الحكم على الآخرين. تذكر قول الله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ يَزَّكّى﴾ [عبس: 3].
الموت يقطع كل الأماني والأوهام، ويفضح البواطن. تذكر هول المطلع، وحساب الله، وميزان الأعمال. هذا التذكر يدفع القلب إلى الخشية والتواضع.
4- الدعاء الدائم واللجوء إلى الله:
ادعُ الله –تعالى- بصدقٍ وإلحاحٍ أن يطهر قلبك من الكبر والعجب والرياء. قل: «اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، ومن أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم» [رواه الترمذي].
وادعُ أيضًا: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت» [رواه مسلم]. فالله هو مقلب القلوب، وبيده الأمر كله.
5- صحبة الصالحين والعلماء:
جالس من يذكِّرك بالله، ومن يذكرك بعيوب نفسك برفقٍ وحكمة. ابتعد عن المجالس التي تُمدَح فيها ويُثنَى عليك، فإنها تورث العجب والكبر. أما صحبة من تتواضع لهم ومن تراهم قدوةً لك في التواضع، تقوّي فيك هذا الخلق العظيم.
6- إظهار التواضع فعلًا:
مارس التواضع في حياتك اليومية. ابدأ بإلقاء السلام، وخدمة الآخرين، ومساعدة المحتاج، والاعتراف بالخطأ، وقبول النصح. كلما تواضعت للناس، رفعك الله. يقول النبي ﷺ: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [رواه مسلم].
7- الإكثار من الاستغفار والذكر:
الاستغفار يمحو الذنوب، ويُجلي القلوب. والذكر يوصل العبد بربه، ويشعره بفقره وحاجته. كلما كنتَ ذاكرًا لله تذكرتَ عظمة الله وضعفك، وهذا يقتل بذور الكبر.
وختامًا أخي الكريم، إن رحلة تطهير القلب من أمراضه الخفية هي رحلة عمر، وجهاد مستمر. لا تيأس أبدًا، استمر في مجاهدة نفسك، واستعن بالله، وثق أن الله لن يضيع أجر من أحسن عملًا. تذكر دائمًا أن العمل الصالح ليس هو المهم فقط، بل الأهم هو القلب الذي يؤدَّى به هذا العمل. اجعل همك الأول نقاء قلبك وصفائه، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
أسأل الله أن يتقبل منك صالح أعمالك، وأن يطهر قلبك، وأن يرزقك الإخلاص والتواضع في الدنيا والآخرة. دمتَ في حفظ الله ورعايته.