الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
282 - رقم الاستشارة : 798
26/01/2025
هل كان جمال الدين الأفغاني ماسونيًّا، حيث تنتشر مقالات وكتابات تتهم الرجل بالماسونية.. فما حقيقة ذلك؟
على مدار قرن تكررت هذه التهمة للمصلح السيد "جمال الدين الأفغاني"، فلا تهدأ حتى يتجدد له الاتهام بالانتماء إلى الحركة الماسونية، وأنه كان ضالعًا فيها، ومن روادها الأوائل في الشرق.
ما يجب الانتباه إليه هو أن عملية تشويه الرموز الإسلامية على مدار التاريخ أمر قائم ومستمر، وسيتكرر، والغاية منه هو تخريب القدوات والمرجعيات الفكرية والسلوكية، وتشويه كل قامة إسلامية كبيرة.
الاتهامات للأفغاني بالماسونية قديمة، وجاءت على ألسنة شخصيات فكرية ذات احترام كبير، مثل العلامة أبو فهر "محمود شاكر"، فقد ذكر الكاتب "حسين أحمد أمين" في كتابه "شخصيات عرفتها" أن الشيخ "شاكر" أسر له بأنه يتهم "الأفغاني" بالماسونية، وقال له إن المسؤولية عن معظم ما يعاني منه الإسلام اليوم تقع على عاتق الأفغاني.
كما ظهرت فتاوى على مواقع تتهم الأفغاني بالماسونية، واستندت إلى كتاب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" للدكتور "فهد الرومي"، كما استندت بعض المواقع على الإنترنت إلى اقتباسات من كلام للشيخ أبو الهدي الصيادي، مفتي الدولة العثمانية، الذي كان على عداء مع الأفغاني، وذكرت أن الأفغاني قدّم طلبًا للالتحاق بالمحفل الماسوني عام 1292 هجرية.
كما ورد الاتهام على ألسنة بعض مشاهير الدعاة في دروس على الإنترنت، واستندوا في هذا إلى ما ذكره السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته، والمعروف أنه كان بين السلطان عبد الحميد وبين الأفغاني عداء شديد بسبب التقارير التي كانت ترفعها الاستخبارات العثمانية ضد الأفغاني، يقول السلطان في مذكراته: "وقعت بين يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعى بـ لنز، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك".
والواقع أن كل الاتهامات التي وردت ضد الأفغاني بالماسونية لا تصمد أمام النقاش التاريخي والثقافي؛ فالأفغاني كان ثائرًا يواجه الاستعمار، ويواجه الجمود في الفكر الديني، والتقاليد الاجتماعية المعيقة للنهوض، ولذا كان الأفغاني يواجه أعداء كثيرين وتيارات مختلفة، ومثل هذا النوع من المصلحين يتعرض للتشويه المستمر والمتنوع والمكثف، حتى تصير الإشاعة والاتهام من كثرة الترديد وكأنها حقيقة دامغة، وهذا ما حدث مع الأفغاني في الاتهام بالماسونية.
والحكاية التاريخية لعلاقة الأفغاني بالماسونية، هي أن الأفغاني عندما قدم مصر كانت تحيطه هالة عظيمة من الإعجاب والحذر، ولجاذبية الرجل وقوة آرائه كان الجميع يحاول استمالته إليه، لكن الرجل كان ثوريًّا، ومن الشخصيات التي يصعب ترويضها؛ إذ كان يجهر برأيه، ولا يخشى أحدًا مهما كانت سطوته، وكانت أفكاره شديدة الوضوح وهو ما منحها جاذبية كبيرة، وقدرة على استقطاب الشباب المثقف، فمع مجيء الأفغاني لمصر للمرة الثانية في (23 مارس 1871) وإقامته بها مدة ثماني سنوات، درس خلالها لطلابه الفلسفة وعلوم الكلام والمنطق التصوف، في بيته.
كان الشرق في تلك الفترة من الناحية السياسية شديد التقلب، وكان المصلحون ومنهم "الإفغاني" يبحثون عن مسارات جديدة يستطيعون من خلالها بعث الروح الاسلامية التجديدية مرة أخرى، وتمكينها من مواجهة الأطماع الأوروبية، وكانت الماسونية في نظر "الأفغاني" واحدة من تلك المسارات، فقد كانت حركة تدعو إلى الإخاء الحرية والمساواة، كما أن الدولة العثمانية سمحت لها بممارسة نشاطها داخلها، ولم تكن أهداف الماسونية بالوضوح الحالي، كما أن تآمرها لم يكن مكشوفًا بما اتضح بعد ذلك.
ويمكن القول أن الماسونية كانت تشبه في جاذبيتها الصيت الذائع الذي تتمتع به حركات حقوق الإنسان، والتي ينضم إليها الكثير من المثقفين والمصلحين لجاذبية أفكارها والدور الإنساني الذي تقوم به.
ومن ثم فماسونية الأفغاني لم تكن سرًّا تم اكتشافه، ولا شيئًا أنكره الأفغاني؛ فالأفغاني ذاته تكلم عن انضمامه للماسونية في مذكراته المعرفة بـ"خاطرات" ثم خروجه منها بعدما اكتشف حقيقتها، وتأسيسه لمحفل ماسوني، والمقصود هناك بالمحفل الماسوني، هو ما يشبه الجمعية؛ فالمحفل لم تكن كلمة تحمل معاني سلبية كالتي تحملها اليوم، ويوضح "أحمد أمين" في كتابه "فيض الخاطر" تلك المسألة بقوله: بل من أجل ذلك انتسب إلى حزب الماسونية؛ لأنه يدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة، فلما دخل فيه رآه يحرم الكلام في السياسة، فقال لهم: «أول ما شوقني للعمل معكم عنوان كبير خطير، حرية وإخاء ومساواة، وإعلان أن غرض الماسونية منفعة الإنسان وسعي لدك صروح الظلم وتشييد معالم العقل، ولكن راعني أنها تقول: إنها لا تتدخل في السياسة، وإذا كانت — وبين أعضائها كل بناء حر — لا تستعمل آلاتها في هدم القديم وبناء الجديد على أساس من الحرية الصحيحة، فلا كانت الماسونية، ولا حملت يد الأحرار مطرقة، ولا قاموا ببناء".
انضم الأفغاني للماسونية وعمره (37) عاما، أي عام 1876م، ثم أصبح رئيسًا لمحفل كبير كان أعضاؤه حوالي ثلاثمائة شخص، وانتقل بين عدة محافل ماسونية، وخرج الأفغاني من الماسونية، ووثّق خروجه وموقفه منها عندما رأى حقيقتها.
وقدر برأ الكثير من المفكرين "الأفغاني" من تهمة الاستمرار في الماسونية أو الدعاية لعقائدهم، مثل الشيخ محمد رشيد رضا، وكذلك الأستاذ "أنور الجندي" في كتابه "أعلام وحملة أقلام" فيقول: "والقول بأن جمال الدين بهذا النحو كان ماسونيًّا في حاجة إلى أناة وبُعد نظر وتجرُّد من الإسراف في تحميل الأمور ما لا تحتمل عن الإسراف، فهو قد ظن في الماسونية ما كان يظنه الكثيرون أنها مؤسَّسة عدل، فلما التمس ذلك لديها خيَّبت ظنه فأنشأ محفله الخاص الذي لم يطل به المدى".