الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
48 - رقم الاستشارة : 857
01/02/2025
السلام عليكم، العلمانية يروج لها أنها تتسع للمخالفين وأنها لا تعرف إقصاء المخالف.. هل هذه المقولة صحيحة أم أنها دعاية؟
ربما تكون العلمانية من أكثر المفاهيم الحديثة التي أحاطتها هالات كبيرة من التمجيد، فبُنيت حولها صورة ذهنية بأنها قادرة على حل غالبية المشكلات والقضايا التي تواجه السلطة والدولة والمجتمع في العصر الحديث، وتم تضخيم منجزاتها، حتى باتت العلمانية وكأنها محصنة ضد النقد، فتحولت إلى ما يشبه "الأيديولوجيا" أو الاعتقاد غير القابل للنقاش والجدال والدحض.
منذ ظهور العلمانية وهي تطرح نفسها كبديل يحمي المجتمعات من أخطار ومعارك أهل الأديان، فأشاعت أنها تحمي الاعتقاد وتضمن ممارساته، وأنها تخلق التوازن بين الأفراد على قاعدة المواطنة، وأنها لن تحقق ذلك إلا بالفصل الصارم بين الدين والسياسة، رغم أن الدراسة العميقة للكاتبة البريطانية الشهيرة "كارين أرمسترونج" بعنوان "حقول الدم" تؤكد أن العلمانية أيديولوجيا شديدة التعصب والانغلاق، بل والعنف.
والخبرة التاريخية للعلمنة في التجربة الغربية تكشف أنها استطاعت أن تحقق إنجازات مشهودة، عندما أزاحت سيطرة الكنيسة وكهنوتها عن المجال العام والمجال السياسي خاصة، فاستطاعت الكثير من الأفكار والرؤى أن تتنفس وتُحدث الكثير من التغير والإنجاز والتقدم، وكان الشعار المرفوع حينها إبان الثورة الفرنسية "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، واستطاعت إزاحة هذا الجمود الديني الكهنوتي، الذي أعاق التفكير والمغامرة والإبداع.
لكن شرعية هذا الإنجاز التاريخي للعلمنة في التجربة الغربية في ذلك الوقت، لا يعني صلاحيتها للتطبيق في كافة المجتمعات، وفي بقية الفترات التاريخية، فالعلمنة في بعض تجاربها كانت شديدة المغالاة والإقصاء لمخالفيها، بل إنها سعت لإبعاد الدين عن الظهور في المجال العام، وليس في أروقة السلطة فقط، ورأت أن أي تعبير عن الدين في المجال العام سواء في الملبس -مثلا- يجب أن يُكافح ليظل المجال العام مناخًا لا دينيًّا، وتجلى ذلك في التطبيق العلماني الإقصائي في أكثر من تجربة، مثل: فرنسا وتركيا وتونس، فتم محاربة ظهور وحضور الحجاب في الوظائف العامة ومؤسسات الدولة وأماكن الدراسة وحتى الشواطئ.
تحدثت دراسات غربية عن الإقصاء العلماني، ووصفته بـ"العلمانية الاستبدادية"، التي لا تقبل بوجود الآخر المختلف بجوارها، ولا تسمح أن يكون بديلاً لها، وذهبت دراسات أخرى إلى أن العلمانية تمثل "ظلمًا وجوديًّا" بإخضاعها كل الرؤى غير العلمانية للمنطق العلماني في النظر للوجود والكون، والمعروف أن الرؤية العلمانية لا تعترف بالمقدس ولا الغيب ولا ما يسمى في الفلسفة الغربية بالميتافيزيقيا أو ما وراء المادة، وسعت الرؤية الوجودية المادية للعلمانية للهيمنة على الرؤى الأخرى، وهو ما يدحض الادعاء العلماني بالحياد.
تشير تلك الدراسات إلى أن العلمانية تضع افتراضات معيارية للوجود، وترى أن تلك المعايير العلمانية هي الحاكمة للسياسة والقانون والعلاقات بين السلطات، بل والحاكمة للوجود الديني في المجال العام، وبذلك تم إخضاع الديني للمعايير العلمانية، وأهم تلك المعايير أن الدين ليس له مجال للتعبير إلا في المجال الخاص فقط، أي بين جدران نفسك ومنزلك، أما أن يتعدى الدين تلك الحدود فلن يصبح تحت هيمنة العلمانية.
ومن الانتقادات المهمة للتجربة الفرنسية في العلمنة أن العلمانية الفرنسية تعاملت مع الدين بمجمله بكيفية تعاملها السابق مع المسيحية، وذلك بتقليصه إلى الاعتقاد الفردي، وحصره في الفضاءات الخاصة مثل البيت والكنيسة، أما خروج الرمز الديني إلى المجال العام فلم يكن هناك تسامح معه بتاتًا.
وكان الإقصاء الأبرز في العلمانية الفرنسية هو الموقف من حجاب المرأة المسلمة، الذي تم حظر ارتدائه في المدارس والمؤسسات العامة بنص قانون صدر في مارس 2004م، وهو ما مثّل إقصاءً عنيفًا يعارض مفاهيم وشعارات الحرية التي تفتخر العلمانية بأنها من أهم منجزاتها.
ونلاحظ في الفترة من 1989 حتى 2004 أنها كانت فترة صراع العلمانية الفرنسية لإقصاء الحجاب من المدارس، وكان الستار الذي اختبأت وراءه العلمانية هو أن الحجاب رمز ديني ومحظور عليه الحضور في المجال العام أو في مؤسسات الدولة العامة، فكان الستار هو أن الشرط العلماني ضرورة للمشاركة والحضور، وتكرر الإقصاء العلماني عام 2016 في منع ملابس السباحة المحتمشة "البوركيني" من الظهور في الشواطئ العامة، وكان الستار العلماني الإقصائي هو أن "الشاطئ خدمة عامة تخضع لمبدأ الحياد المطبق على مقدمي الخدمات العامة"، ومن ثم فالعلمانية تحولت لمجموعة من المعايير الواجب الالتزام بها في المجال العام.
أما العلمانية العربية فكانت تنسف قواعد الديمقراطية، وترى أن الديمقراطية يجب أن تفرز ما تراه العلمانية وليس ما يراه المجتمع، وهو ما يمكن الإطلاق عليه "ديمقراطية بلا إسلاميين"، لذلك كان المنطق العلماني يؤيد كل انقلاب على التجربة الديمقراطية إذا أفرزت الإسلاميين، فلم تكن العلمانية متسامحة مع أهل الأديان، ولم تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم، أو بجني ثمار الفوز في الانتخابات.
والمعروف أن ثقافة الإقصاء لا تتأسس إلا في مناخ سياسي وفكري وثقافي يرفض التعدد ولا يقبل بالاختلاف، في كتابه "صنع العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح" للباحث الفرنسي "بيار كونيسا"، اقتراب نظري من آليات الشيطنة، وأهم ما يؤكد عليه "بيار" هو أن العدو فكرة مصطنعة، وصناعته تبرر مواجهته، والقضاء عليه؛ فالجندي لا يقتل بضمير مرتاح حتى يؤمن أن من يواجهه هو العدو، ومن هنا قامت العلمانية الإقصائية بتصنيع "العدو" واستخدمته كمبرر للإقصاء والقمع.