الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
339 - رقم الاستشارة : 784
23/01/2025
ماذا يعني مصطلح ما بعد العلمانية؟ هل يؤشر على انتهاء العلمنة وعودة الدين ام يدل على قدر من المصالحة مع الدين؟
يشير مصطلح "ما بعد العلمانية" إلى عودة المعتقدات والممارسات الدينية إلى الظهور خاصة في المجال العام، ولعل أهم من نحت المفهوم وعممه هو الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني "يورجن هابرماس".
فقد ظهر تيار ثقافي غربي رافض لفكرة أن الدين كان غائبًا في المجتمع الغربي، وأكد هذا الاتجاه أن القول بأن الغرب كان يعيش في مجتمع علماني خالص كان افتراضًا خاطئًا، ومن هؤلاء "بيتر بيرجر" في الكتاب الذي حرره بعنوان "إزالة العلمانية في العالم" الصادر عام 1999م، بمشاركة عدد من الكتاب، ومما جاء فيه "أن العالم اليوم أصبح متدينًا بشكل محموم كما كان دائمًا، بل وفي بعض الأماكن أكثر تدينًا من أي وقت مضى".
وعلى هذا فإن افتراض العلمانية منذ عصر التنوير، بأن التحديث يؤدي بالضرورة إلى الانحدار الديني، سواء في المجتمع أو في عقول الأفراد، ما هو إلا افتراض خاطئ، حسب ما جاء في الكتاب.
لكن السؤال، هل كان الدين غائبًا أو متواريًا خلال العقود الماضية في ظل العلمنة والتحديث الذي اجتاح العالم الغربي منذ الثورة الصناعية خلال القرن الثامن عشر الميلادي؟
تؤكد الكثير من الدراسات العالمية أنه منذ السبعينيات من القرن الماضي، والدين على المستوى العالمي آخذ في الحضور والفعالية بشكل مثير للاهتمام، وأن النفوذ الديني في المجالات المختلفة يتزايد بشكل ملحوظ ويتخلل الكثير من الطبقات الاجتماعية، وهو ما أكد حيوية الدين وقدرته على التفاعل الإيجابي مع قيم الحداثة التي تُعلي من شأن العلم والعقل.
ومع مطلع التسعينيات ظهرت مفاهيم تشكك في العلمنة نفسها، ونظرياتها المختلفة، وتشكك في تأثيراتها، وتشكك في عملية تغييب الدين، وتشكك أن العلمنة حقيقة عالمية لا تقبل النقاش والجدال، وترفض مقولات أن العلمانية هي البديل الأمثل للدين "السيئ" أو للممارسات والرؤى الدينية غير الجيدة.
وفي هذه الأجواء السجالية، التي تطرح جدوى العلمنة وتقيم تجربتها، ظهر مصطلح "ما بعد العلمانية" في المجتمع الغربي، وترجع بداياته التأسيسية لندوة بحثية عقدت عام 2010 وشارك فيها عدد من الفلاسفة والمفكرين أبرزهم: يورغن هابرماس، وتشارلز تايلور، وبيتر بيرغر، وخوسية كازنوفا، وهؤلاء أبدوا انفتاحًا على الدين وقضاياه، وكان المنطلق هو أن العصر العلماني بلغ منتهاه، وأن العالم الغربي دخل في واقع جديد لم يعد فيه الكلام السابق عن العلمانية أمًرا جائزًا، ولم تعد العلمانية الحل الأمثل للمشكلات والأزمات الغربية.
العلمانية لم تتحول إلى سلطة صارمة إلا بعد أن اتخذت الدين نقيضًا وجوديًّا لها، و"ما بعد العلمانية" جاء ليؤكد ظهور رؤى فكرية جديدة تعمل على تجاوز مرحلة التناقض التام بين الشأن الديني والعلماني، وليؤكد وجود أزمات بنيوية في العلمنة نفسها خلال تجربتها التي امتدت ثلاثة قرون، وليفصح عن أسئلة غير مسبوقة تفرض تقديم إجابات جديدة في المجتمعات الغربية، فمثلما افتتحت العلمنة مسارها بمقولة "إزالة السحر عن العالم"، تفتتح "ما بعد العلمانية" مسارها بمقولة "إزالة العلمنة عن العالم"، فلم تتحول "ما بعد العلمانية" إلى مفهوم إلا بعدما أُشبعت العلمنة جدلاً واختبارًا وسجالاً.
العلمنة في بعض صورها هي العقلنة، أي الإيمان بالعقل المكتفي بذاته؛ لذا وقفت العلمنة في تضاد مع الدين، فهي تثق في العقل ولا تثق في الدين، وتهز الثقة في الأوامر الدينية عن طريق تكريس محورية العقل، وبذلك تصبح شرعية القوانين والأخلاق قائمة على العقل لا الدين، ومن ثم كانت العلمانية مفهوم كلي تصدر عنه المفاهيم الجزئية، أي "شيء فوق الأيديولوجيا" لأنها تدعو إلى رؤية كونية محددة؛ لذا تعارضت مع الدين، لأن كلا منهما يطالب بنوع من الإيمان والالتزام والطاعة.
ويلاحظ أن العقل الذي شيدت عليه الحداثة منجزاتها الكبرى ما عاد قادرًا بأدواته المعرفية المألوفة على مواجهة عالم ممتليء بالخشية واللايقين، وما عادت العلمنة قادرة على إكمال مسيرتها دون التفاعل مع النمو المتعاظم لسؤال الدين، فالدين لم يفارق هواجس الغرب وتعقلاته، حتى إن بعض الفلاسفة الغربيين، مثل الروسي "نيقولا برديائيف" كان يردد أن "لليقظات الفلسفية دائما مصدر ديني"، وأن الإيمان الديني هو حالة فوق تاريخية ولا يستطيع العقل العلماني أن يقاربها.
العلمانية لم تستطع استئصال البعد الروحي في الإنسان، لكنها نجحت في تعطيل المعين الذي يستمد الإنسان منه أخلاقه، نظرًا لقيامها بتعظيم الذات الفردية، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدأ الرحمة والعدل، ونتج عن ذلك عدم قبول العقل لأية معيارية خارج التحكيم الشخصي، وبذلك صارت الفردانية عقيدة صماء تنكر أي مبدأ يعلو على القيم الفردية، وحسب المفكر الفرنسي "رينيه غينون" فإن تلك الفردانية غلبت الدنيوية التي أسست للانحطاط الراهن في الغرب، فالفردانية تمثل النزعة السفلى في الإنسانية.
ومن أهم الانتقادات التي وجهت للعلمانية أنها تحولت إلى "لاهوت أرضي" أو أيديولوجيا تُلهم الدولة والمجتمع، فوقع الغرب في المأزق الذي سعى للخروج منها، وتحولت العلمنة إلى سلطة لاهوتية قهرية تصدر أحكامها بلا هوادة، لكنها لم تستطع أن تصمد أمام النقد الذي زعزع يقينها بعدما زرعت الشك في كل شيء.
وفي التجربة العلمانية تُرك العقل مجردًا من الحقيقة الإلهية، فتحول إلى أداة للتصنيع وإدارة للتسويق من دون أهداف أخلاقية أو غاية متعالية، وفتحت أمامه أبواب الإلحاد، لكن كلا من الإلحاد والعلمانية حمل في داخله فكرة متهافتة، ملخصها: أن الإنسان كائن زائل، وهي فكرة تقضي على عظمة الإنسانية وما فيها من تعال وروحانية.
يمكن مراجعة تلك المصادر:
* تشارلز تايلور، وآخرون- ما بعد العلمانية: دراسات نقدية - ترجمة طارق عثمان - مركز نماء للبحوث - القاهرة - 2022.
* محمود حيدر- ما بعد العلمانية: مقاربة تحليلية نقدية لمنشأ المفهوم ودلالته- المركز الإسلامي – بيروت - 2019.