الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
26 - رقم الاستشارة : 939
10/02/2025
لماذا تتزايد في الغرب ظاهرة الاهتمام بالقطط والكلاب على حساب الإنجاب والزواج؟ هل يمثل هذا فقدانًا للكثير من القيم الإنسانية التواصلية؟
صارت القطط والكلاب بديلاً عن الأطفال في عدد من الدول المتقدمة، وظهرت مصطلحات تصف تلك الظاهرة، مثل: "الأبوة الكلبية أو القططية" أو "الأطفال من ذوي الفراء"، وهي ظاهرة تكشف عن أزمة عميقة في التواصل الإنساني، وفقدان المعنى في الاستثمار في الحياة من خلال الإنجاب، إضافة إلى مشاعر اليأس التي تمكنت من الذات الإنسانية، ففضلت الهروب من المسئولية الإنجابية إلى منح الرعاية للحيوان بدلاً من الإنسان.
المجتمع الأمريكي -مثلا- أصبح أمةً مالكةً للحيوانات الأليفة أكثر من الأطفال، تشير إحصاءات إلى أن هناك (85) مليون أسرة أمريكية لديها كلاب، في مقابل (35) مليون أسرة فقط لديها أطفال، أي أن الأسر التي تتبنى الكلاب تفوق الأسر التي ترعى الأطفال بما يعادل ثلاثة أضعاف، ومن ناحية أخرى هناك انصراف عن تبني الأطفال ورعايتهم لصالح رعاية الحيوانات خاصة القطط والكلاب.
تشير الإحصاءات إلى أنه يولد أربعة ملايين طفل كل عام في أمريكا، في مقابل ستة ملايين جرو، وينفق الأمريكيون 136.8 مليار دولار سنويًّا على كلابهم، ويُحذّر بعض علماء الاجتماع من أن نسبة المواليد هي أحد المؤشرات المهمة لقياس حجم اليأس في المجتمعات؛ فالمجتمعات والأفراد اليائسون لا يُقبلون على الإنجاب، ليأسهم هم أنفسهم من الحياة.
في أوروبا تشير التقديرات إلى أن 91 مليون أسرة في أوروبا تمتلك حيوانًا أليفًا واحدًا على الأقل، ويوجد أكثر من 8 ملايين كلب تحظى بالرعاية في البيوت الألمانية، وهناك 12 مليون ألماني يمتلكون القطط، ويرعاها أكثر من 30 ألف طبيب بيطري، وهناك من يوصي بثروته للكلاب والقطط، وتوجد تشريعات ألمانية تسمح للكلاب والقطط أن تُدفن بجوار رفات أصحابها.
في دراسة كتبتها عالمة الاجتماع الأمريكية "إيمي بلاكستون" عن تلك الظاهرة بعنوان "التخلي عن الأطفال باختيارنا"، و"بلاكستون" وهي إحدى مئات الآلاف من السيدات اللاتي تخلين عن إنجاب الأطفال لصالح تربية القطط والكلاب، تذكر في كتابها أن المستقبل سيحمل إعادة تعريف لمفهوم الأسرة، من خلال تعديل المفهوم الرعائي من الأطفال إلى الحيوانات الأليفة، وأن الحياة القادمة ربما تكون خالية من الأطفال لصالح ما أسمته "الطفل الفروي".
في العام 2022 حذّر بابا الفاتيكان من اختيار الحيوانات الأليفة كبديل عن الأطفال، معتبرًا هذا المسلك "أنانية"، وقال: "إن الأزواج الذين يفضلون الحيوانات الأليفة على الأطفال هم أنانيون"، مؤكدًا أن تربية الحيوانات الأليفة إنكار للأبوة والأمومة ويقلل من شأننا كبشر ويسلبنا إنسانيتنا، وأن النتيجة القادمة هي شيخوخة الحضارة؛ فالحضارة تشيخ بدون الإنسانية، وقال: "إنجاب طفل يشكل دائمًا مخاطرة، ولكن هناك مخاطر أكبر في عدم إنجاب طفل"، ويتفق هذا ما تصريح آخر له عام 2014 من أن "تربية الحيوانات الأليفة بدلاً من الأطفال ظاهرة أخرى من التدهور الثقافي".
الغريب أن ظاهرة استبدال العاطفة الرعائية للحيوانات الأليفة بدلا من الأبناء، كانت تطفو في بعض الحضارات في أوقات الترف، الذي كان يُنذر بالإفلاس والسقوط، ولعل هذا ما أشار إليه المؤرخ اليوناني القديم "بلوتارخُس" عندما رأى أثرياء روما من الأجانب يحملون صغار الكلاب والقرود على صدورهم ويرعونها، فقال موبخًا هذا التوجه: "أولئك الذين يبددون على الحيوانات تلك النزعة إلى الحب والمودة التي هي من طبيعتنا، والتي لا تتحقق إلا لإخواننا البشر".
إن تصورات الإنسان عن نفسه ووجوده واستخلافه في الأرض، أصبحت شديدة الاضطراب، وفي هذا الاضطراب يبحث ذلك الإنسان القلق عما يطمئن به نفسه، أو حتى يشغلها عن طرح الأسئلة الوجودية حول غاية الحياة والمصير القادم، بل إن هذا الإنسان يسعى لتضليل نفسه والتعمية عليها من خلال التلاعب بالمشاعر والغرائز الكبرى كالأبوة والأمومة والميل إلى إنجاب الأطفال، واستبداله بذلك رعاية الحيوانات التي تشغب على عاطفته وغريزته.
ومن ناحية أخرى فإن الإنسان المعاصر تعمقت فيه الرؤية المادية وتغلغلت حتى أصبح لا ينظر إلا إلى منفعته في كل شيء حتى في الأبوة والأمومة، فما دامت الأبوة والأمومة لن تُدر عليه مالاً ولا أرباحًا فلم يعد شغوفًا بممارسة دوره الإنساني في الحياة، وبات أكثر ميلاً للانسحاب من دوره الاستخلافي لصالح الكلاب والقطط.