23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 252
  • رقم الاستشارة : 651
11/01/2025

هل الكوارث الطبيعية انتقام سماوي ام أنها عوارض لا دخل للسماء بها..وهل هناك موقف فكري من التعامل مع تلك الكوارث في الرؤية الإسلامية

الإجابة 11/01/2025

مع الكوارث الطبيعية تثور تساؤلات تتحسس الغاية منها، في محاولة للوصول إلى العلة والحكمة من حدوثها، خاصة إذا حلت الكارثة ببعض الدول أو المجتمعات الذين اتصفوا بالظلم، وارتكبوا الانتهاكات بحق الآخرين، ارتكبوا الذنوب والخطايا الكبيرة، حيث تصدر مقولات وتفسيرات تربط بين وقوع تلك الكارثة وبين ما ارتكبته تلك المجتمعات والدول من مظالم.

يبقى السؤال: هل يمكن القبول بتلك التفسيرات في الربط بين الكارثة الطبيعية وبين كونها عقوبة إلهية وانتقامًا سماويًّا؟

الحقيقة أن هناك اتجاهين في تلك القضية:

الأول: يرفض التفسيرات الدينية والغيبية والفلسفية للكارثة الطبيعية، ويرى أن ما حدث هو تطورات في الطبيعة لا تخضع للمنطلق الديني، خاصة أن الكوارث تنزل بالمؤمنين والكافرين والعصاة والطائعين على حد سواء ولا تفرق بين أحد منهم.

ويضرب هؤلاء عددًا من الأمثلة المعاصرة، منها: تسونامي عام 2004؛ إذ كان معظم الضحايا من سكان آتشيه وهم مسلمون، كما أن زلزال آتشيه في عام 2016 أدى إلى انهيار وتضرر ما مجموعه 196 مسجدًا، وكذلك الزلازل المتعاقبة في تركيا وسوريا والمغرب، ثم غرق مدينة درنة في ليبيا وغيرها من الكوارث.

الثاني: يرى أن الكوارث قد تكون عقابًا، قد تكون انتقامًا من الظالمين والعصاة خاصة عندما يتزايد العصيان والظلم ويصل إلى مرحلة مخيفة، فهنا تنزل الكارثة أو الجائحة؛ ففي الكارثة والمصيبة رسالة سماوية يجب الالتفات لها وإدراك مغزاها، ويدعم هذا الاتجاه موقفه بالكثير من الشواهد القرآنية وفي السنة النبوية، وكذلك بالتاريخ ومشاهدات الحياة التي لا تخلو من الحكمة والعبرة في هذا السياق.

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه أن كل أزمة تمر بها الإنسانية تفتح نافذة على بعد إيماني، ورؤية ما للدين، وبعض الكوارث ابتلاء والآخر عقوبة، ويرى هؤلاء أن إنكار الحكمة والغاية والعلة من الكوارث ليس أمرًا مقبولاً؛ فالكوارث فيها موعظة، وفيها عقوبة، وفيها حكمة، وفيها ابتلاء، واستغرب هؤلاء من الإنكار عليهم مناقشة الحكمة من تلك الكوارث.

ونستطيع أن نقول هنا الفكر الإسلامي في المنطقة الوسط، فلا ينظر إلى الكوارث على أنه لا دخل للسماء بها، كذلك لا ينظر إليها وكأن كل ما يجري هو انتقام وتصفية حساب في الحياة الدنيا قبل الآخرة.

مساحة الوسط هذه تتيح الرؤية الصحيحة، والتفسير والفهم الجيد لما يجري، فبعض الكوارث تحل بمجتمعات تفشى فيها الظلم أو أفراد ارتكبوا مظالم كبيرة، ومن هنا فقد تكون جزءًا من العقوبة المعجلة في الحياة الدنيا، كما أنها قد تحمل رسالة مهمة وهي تذكير للمظلومين بأن ميزان العدل في الكون لم يختل، وأن السماء تتدخل وفق إرادتها ومشيئتها، وفي الوقت الذي تحدده بإرادتها الطليقة، لإعادة الضبط لهذا الميزان، حتى لا تختل حركة الكون، وحتى لا يُفتتن الناس، ويتوهموا خطأ أن الخالق سبحانه تخلى عنهم، وترك الكون ترمي به الريح حيث تشاء.

أما من ناحية الحكمة من الكارثة، بعيدًا عن كونها عقوبة أو ابتلاء، فهي مؤشر على العجز الإنساني أمام القوى الموجودة في الكون، وتذكير بأن هناك قوى في الكون لا يقوى الإنسان على مواجهتها أو التحكم فيها، أو حتى فهم غايتها ودوافعها، وهو ما يرسخ العجز، ويكسر الغرور الذي خلقه المنطق الحداثي العلماني التقني، بأن العلم قادر على إدراك كل ما يحيط بالإنسان، والسيطرة عليه والتحكم فيه.

يقول "سيجموند فرويد" في كتابه "مستقبل الوهم" The Future of an Illusion الصادر قبل مائة عام: "لا أحد يتوهم أن الطبيعة قد هُزمت، فهناك عناصر يبدو أنها تسخر من سيطرة الإنسان المطلقة: فالأرض التي تهتز وتمزق وتدفن كل حياة بشرية؛ والماء الذي يغرق كل شيء في حالة اضطراب؛ والعواصف التي تطيح بكل شيء أمامها، والأمراض، وأخيرًا لغز الموت المؤلم، الذي لم يُعثر على دواء ضده، وربما لن يكون موجودًا على الأرجح، مع هذه القوى تثور الطبيعة علينا، مهيبة وقاسية لا هوادة فيها؛ تعيد إلى أذهاننا مرة أخرى ضعفنا وعجزنا".

تشير الإحصاءات العالمية أن ستين ألفًا هم ضحايا الكوارث الطبيعة كل عام، من جفاف وتسونامي وفيضانات وحرائق غابات وزلازل، ويتأثر بتلك الكوارث حوالي (150) مليونًا آخرين، وحسب إحصاءات جامعة "أكسفورد"، فنسبة وفيات الكوارث تعادل 0.1% من بين الوفيات العالمية، التي تُقدر بـ7.2 مليون شخص كل عام.

ولنأخذ تأثير إحدى الكوارث على التدين وإشعار الناس بوجود خالق للكون، في جامعة "كوبنهاجن" الدنماركية خلصت الباحثة "جانيت بنتزن" Jeanet Bentzen في بحثها عن الزلازل والدين أن التدين يزداد بنسبة 7.6% في المناطق التي تعرضت لزلزال، مقارنة بالمناطق التي لم تشهد الزلزال، وقالت: "وجدتُ أن الأفراد في جميع أنحاء العالم يصبحون أكثر تدينًا عندما تضربهم الزلازل، ويستمر تأثير أي زلزال من 6 : 12 عامًا، ولكن أثره يبقى وينتقل عبر الأجيال"، وأشارت إلى أن العواصف والأعاصير لا تملك نفس تأثير الزلزال في زيادة التدين، وتعلل ذلك بأن الكوارث التي لا يمكن التنبؤ بها هي ذات التأثير الأكبر على حالة التدين.

وستظل الكوارث تطرح قضية الخوف الإنساني من القدر، وتطرح –أيضا- قضية المسؤولية عما وقع، وستظل العلة والحكمة متخفية لا نستطيع الجزم بمعرفتها.