22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 48
  • رقم الاستشارة : 936
09/02/2025

تفكك الأسرة في الغرب.. هل تقف وراءه فلسفات وأفكار شجعت هذا التفكك حتى كادت الأسرة تتبخر في المجتمع الغربي؟

الإجابة 09/02/2025

الأسرة تتآكل في الغرب، ولن تمضي إلا عقود قليلة حتى تصبح الأسرة بمفهومها وشكلها وقيمها التقليدية شيئًا نادرًا قليل الظهور في تلك المجتمعات.

 

ولعل هذه الأزمة ظهرت لحيز الوجود في الستينيات من القرن الماضي، مع ظهور ما عُرف بـ"الثورة الجنسية" في الغرب التي بدأت مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، والتي دعت إلى التحرر من القيود الأخلاقية والضوابط الاجتماعية في الممارسة الجنسية، وإن كانت أصولها الفكرية ترجع إلى طفرات من الظهور والكمون في الفكر الغربي.

 

فمع الثورة الصناعية، وما سُمي بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وانتشار التصنيع وتنامي حركة الهجرة من الريف إلى المدن والتجمعات الصناعية، كان التحرر من القيود في ممارسة الجنس يتزايد، ويتزايد معه التراجع في قيم الأسرة، وأخذت كرة الثلج تتزايد مع مرور الوقت لتشكل أزمة في المجتمع الغربي.

 

المؤشرات تذهب إلى أن الأسرة في الغرب تعاني من أزمات متشعبة وعميقة، بدءًا من تناقص أعداد الأسر، والعزوف عن الزواج وبناء العائلة، وزيادة المواليد خارج إطار الزواج، وتفشي حالات الطلاق، وزيادة العنف الأسري.

 

تؤكد الإحصاءات أن هناك (220) مليون أسرة في الاتحاد الأوروبي، منها (155) مليون أسرة ليس لها أولاد، كما أن أكثر من 47% من الأطفال المولودين جاءوا خارج إطار الزواج، وأن 60% من أطفال فرنسا غير شرعيين، وأن معدلات الزواج انخفضت بنسبة 50% خلال العقود الخمسة الماضية، في حين تضاعفت معدلات الطلاق بنسب كبيرة؛ فمثلا ارتفعت نسب الطلاق في البرتغال من 1% عام 1960 إلى 60% عام 2011م، وهي نسبة تقارب 50% من حالات الزواج ذاتها، كما أن هناك ملايين الأطفال يعيشون في أسر بالتبني؛ فمثلا (8%) من الأسر الفرنسية يعيش فيها أطفال بالتبني، ويعيش مئات الآلاف من الأزواج والزوجات مع أطفال ليسوا أبناءهم.

 

من الأفكار التي تسببت في تآكل الأسرة: تعظيم مفهوم الحرية الفردية، والنظر للأسرة كقيد على تلك الحرية، فنظر إلى الحرية الفردية باعتبارها أم الفضائل التي يجب الدفاع عنها، والمعيار الذي يقاس عليه تقدم المجتمع أو تمسكه بالرؤى المحافظة، وكان تحرير الفرد هو الشعار الذي تراكمت حوله غالبية الأفكار والرؤى التي قادت بعد ذلك إلى الانحدار في تكوين الأسرة.

 

كانت العقلانية والفردانية المنبثقة من الحداثة تعد الناس بالفردوس والرخاء والطمأنينة، واستطاعت إحداث تغيير في منظومة القيم لدى الأفراد فصار الربح والغنى والاستقلال المادي والمكانة الاجتماعية والبحث عن المتعة في مقدمة اهتمامات الفرد وغاياته، وتراجعت أمامها فكرة تكوين الأسرة والإنجاب والزواج.

 

الكاتبة "دانيللي كرتيدن" في كتابها "ما لم تخبرنا به أمهاتنا" أكدت أن الجيل الجديد من الأمهات تحت سن الأربعين أصبحن ضحايا للحركة النسوية التي شجعتهن على العزوف عن الزواج والأطفال والاستغراق في العمل خارج المنزل، والأدهى هو أن الرأسمالية ضخّمت فضائل العمل إلى الحد الذي لم تعد فيه المرأة غير قادرة على فعل أي شيء بدون أجر حتى الأمومة.

 

شنّت الحركات النسوية هجومًا عنيفًا على الأسرة، وركّزت النسويات على المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومطالبة المرأة بإخراج الرجل الكامن في داخلها واقتحام مجالات العمل والحياة، والنظر إلى تربية الأبناء وكأنها "وظيفة بيولوجية متدنية"، كل هذا دفع المرأة لعدم النظر للأسرة كمجال فطري لحركتها تتلاءم مع طبيعتها الفطرية، ولكنها باتت تنظر إلى الأنوثة والأمومة وتربية الأبناء كمعوقات لإمكانية نجاح المرأة في الحياة وتحقيق ذاتها، فاختل التوازن والاتزان داخل الأسرة، ولم تعد وظيفة الأسرة: الإحصان، والإنجاب، وتربية الأبناء، ولكن باتت تحصيل المتعة، وتقليل كلفتها، ولهذا لعبت النسوية دورًا في تدمير الأسرة من خلال التركيز على قضايا المرأة، والنظر إلى المرأة كفئة منعزلة عن بقية المجتمع، وعن أدوارها الفطرية.

 

الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن" في كتابه "روح الحداثة" اقترب من أزمة الأسرة الغربية المتشبعة بروح الحداثة، فرأى أن النموذج الغربي جعل الأسرة محلًا للهناء لا محلًا للبقاء، بعدما فصلها عن الاستمداد من القيم الدينية، فأصبحت المادية لا الأخلاقية هي التي تستمد منها الأسرة مُثُلَها وقيمها، وصارت الاستهلاكية قيمة مركزية في الأسرة الجديدة، وتراجعت قيمة المودة والرحمة، فاختلت الوظيفة الأخلاقية بين الأفراد، وفقدت الأسرة قدرتها على التنشئة والإصلاح والتهذيب، ثم جاء التشريع ليقنن حالة الاضطراب في الأسرة.