الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
332 - رقم الاستشارة : 766
22/01/2025
الشذوذ المتفشي في المجتمعات الغربية تحديدا هل له أبعاد فلسفية ام هو انحراف سلوكي أخلاقي فقط
في خطاب توليه السلطة في 20 يناير 2025 أعلن الرئيس الأمريكي "ترامب" أن هناك جنسين فقط، رجل وامرأة، وهو ما يعني عدم اعترافه بالشذوذ الجنسي، الآخذ في التنامي في المجتمع الأمريكي، وهو موقف يتسق مع وعوده أثناء حملته الانتخابية، التي أكد فيها أن أول قراراته في حال فوزه بالرئاسة هو "وقف جنون التحول الجنسي"، وأعلن أنه سيخرج الشواذ والمتحولين جنسيًّا من الجيش.
وعلى الجانب الآخر نجد موقفًا مماثلاً وصلبًا من الرئيس الروسي "بوتين" ضد الشواذ والمتحولين جنسيًّا، واستطاع بوتين في تحويل موقفه لقوانين؛ ففي ديسمبر 2023م حُظرت الحركة الدولية للشواذ، ووجه انتقادًا للرئيس الفرنسي "ماكرون" عندما قال له: "الدول التي تحترم المثلية لا رأي لها"، وفي ديسمبر 2022م أصدر البرلمان الروسي قانونًا ينص على حظر الترويج للمثلية، وفي أوروبا –أيضا- وفي عام 2020 وصف الرئيس البولندي "أندريه دودا" الشذوذ بأنه "أيديولوجية" أكثر تدميرًا من الشيوعية.
ويعد هذا الاتجاه عدولاً عن الحالة السابقة الساعية لإضفاء الشرعية القانونية والمجتمعية على الشذوذ، وإزاحة النبذ الأخلاقي والديني والاجتماعي والقانوني من طريقه، ليكون مسارًا لممارسة الجنس، فمنذ العام 1973 عندما أزالت الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) الشذوذ من دليلها التشخيصي للاضطراب النفسي، انتقلت أسئلة في الغرب من البحث عن مسببات الشذوذ وكيفية التعامل معها، إلى الحديث عن احتياجات الشواذ الصحية والعقلية والنفسية، أي اعتبرت الشذوذ حالة طبيعية تستوجب الرعاية والاهتمام.
وقبل أكثر من ثلاثين عامًا وضع عالم النفس "مارشال كيرك" وخبير الدعاية "هانتر مادسن" كتاب "بعد الحفلة" After the Ball، وكان غايته تقديم استراتيجية حتى يتحول الشذوذ إلى مسار طبيعي في الحياة الجنسية، من خلال تفكيك شعور الذنب تجاه هذا الانحراف، وإلغاء الاستهجان والرفض الاجتماعي للشذوذ، ومن الوسائل التي اقترحها، إدخال الشواذ إلى هوليوود، وهؤلاء سيقومون بتقديم صورة إيجابية للشواذ من خلال سيناريو الأفلام، والتمثيل، والتمهيد للقبول بالتعايش مع الشذوذ والشواذ، كذلك أن يكون بعض مشاهير السينما والفن من الشواذ، وأن يتم الدفاع باستمرار عن الشذوذ، باعتباره أحد الأشكال الطبيعية للجنس التي قد يولد بها الإنسان.
وتزعم الاحصاءات أن الشواذ يمثلون 8% من سكان العالم، بل إن كتاب "الجنس بالأرقام"Sex by Numbers لمؤلفه "ديفيد شبيجلهالتر" الصادر عام 2015م يزعم أن نسبة الشواذ عالميًّا هي 10%، وأن الأجيال الناشئة هي أكثر ميلا لقبول الشذوذ.
ولكن ما الفلسفة التي تقف وراء الشذوذ؟
الشذوذ في حقيقته هو تفكيك للإنسان وهدم للفطرة ومعاندة لقوانين الطبيعة في التناسل البشري، وتبديد وإهدار للطاقة الجنسية، التي من خلالها يتحقق التناسل البشري وإعمار الكون. في كتابه "الحب السائل" حذّر الفيلسوف الشهير "زيجمونت باومان" من رغبة الجنس في أن يتحلل من التزاماته، وأهم هذه الالتزامات هو الإنجاب، فيقول: "العقل الحديث السائل يرى في الالتزامات الدائمة ظلمًا وغمًّا، وفي الارتباط المتين تبعية وتقييدًا، فذلك العقل ينكر الحق في الالتزام والارتباط، فهما يعكران صفو العلاقات البشرية القائمة على الإشباع الفوري للرغبة"، وتأسيسًا على تلك الرؤية يتحول الجنس إلى سلعة، خاضعة لمنطق السوق، فلا يستهدف إلا اللذة، ومن ثم تصير فكرة الاستخلاف الإنساني في الأرض، لا معنى لها، وبذلك يتحول الجنس إلى ممارسة مأمونة العواقب، تبتغي التفريغ والإهدار وليس البناء والإنجاب.
والحقيقة أن الشذوذ هو نتاج لأزمة فلسفية؛ إذ مع غياب الرؤية الفلسفية للكون، وتلاشي غاية الإنسان في الوجود، وتراجع فكرة المصير من الأذهان، يصبح الإنسان تائهًا، وتتحكم الغريزة في سلوكه، ومن هنا فالشذوذ له ارتباط وثيق بالفلسفة العدمية، والشخص العدمي هو شخص يفتقر إلى الإيمان بأي شيء، ولا يؤمن بأي حقيقة، ولا غرض له سوى الرغبة في التدمير، وتنادي العدمية بإزالة الحواجز بين كل شيئين متمايزين؛ فلا فارق بين الخير والشر، وبين المقدس والمدنس.
ومن ثم ضحت العدمية على مذبح الشر، ويمكن تلخيص المبدأ العدمي بمقولة الفيلسوف الألماني نيتشه بـ«إنكار الحياة»، ولا شك أن الشذوذ ينكر استمرار الحياة، بعدما حول الفعل الجنسي لإنجاب الذرية وتحقيق الاستخلاف، إلى فعل مهدر، لا فائدة منه، وهذه الروح الإنكارية التي تقف وراء منطق العدمية، تتحرك من خلال مفردات متعددة، أبرزها الفعل الجنسي الشاذ؛ إذ تنظر إلى الحياة إنشاء واستمرارًا باستهانة.
من سنوات كتب البرفيسور الأمريكي "كارسون هولواي" مقالا مهمًّا ربط فيه بين الشذوذ والفلسفة العدمية، كان عنوانه "زواج المثليين وهاوية العدمية"، وقال فيه: "لا يمكننا أن نتقبل زواج المثليين ونعيش في استمرارية مع ماضينا كحضارة، إن قبول هذا يعني إنكار أي سلطة للتقاليد والوحي والعقل والطبيعة علينا.. إن تبني زواج المثليين يعني الانزلاق إلى هاوية العدمية. وهو يعني الدخول إلى عالم لم يعد فيه أي معايير عامة صلبة أو موثوقة للحكم على ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو عادل وما هو غير عادل".
في كتابه «المادية وتفكيك الإنسان" أكد أن الفلسفة المادية تقف خلف الشذوذ؛ فالحضارة المادية الغربية تفسر الأخلاق تفسيرًا ماديًّا، ويؤكد أن الإباحية والشذوذ ليسا مشكلة أخلاقية، لكنهما قضية معرفية؛ فهما جزء من الهجوم على الطبيعة الإنسانية، أو الفطرة، وعلى قداسة الإنسان يقول المسيري: "إن الدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسي والدعوة إلى تطبيعه، يمكن إعادة النظر إليه لا كدعوة للتسامح أو تفهّم وضع الشواذ جنسيًّا، بل كهجوم على المعيارية البشرية وعلى الطبيعة البشرية".