الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
295 - رقم الاستشارة : 728
19/01/2025
تتراجع معدلات الزواج في الغرب بشكل مخيف فما علاقة تلك الأزمة بالعلمنة والتحديث والمادية في المجتمع الغربي؟
تشهد الكثير من المجتمعات الغربية والعلمانية تراجعًا حادًّا في معدلات الزواج، وهي ظاهرة مقلقة، خاصة أن الزواج كمؤسسة آخذ في الانقراض؛ وهو ما يعني أن الأسرة كأهم وأول مؤسسة أنشأها الإنسان على الأرض سوف تصبح شيئًا من الماضي، وهو ما يدفع للتساؤل عن العلاقة بين تلك الظاهرة وبين التحديث وتغول العلمنة في المجال الاجتماعي.
في البداية تشير التقارير خلال السنوات الأخيرة إلى أن الغربيين محجمون عن الزواج بصورة مرعبة؛ فالأمريكيون خلال السنوات الخمس الماضية انخفض لديهم معدل الزواج بنحو 60%، وأن معدل الطلاق ارتفع ليبلغ نحو 42% من حالات الزواج، وأن هناك (86) حالة طلاق في أمريكا كل ساعة مقارنة بـ (230) حالة زواج، وأظهرت الأرقام أن الأشخاص الذين بلغوا الأربعين من عمرهم ولم يتزوجوا وصلوا أرقامًا قياسية، وانتشار المثلية الجنسية والمساكنة التي أشار إليها تقرير لمركز "بيو" الأمريكي عام 2019 بأنها باتت أكثر شيوعًا، كذلك تفاقمت معدلات الإنجاب خارج مؤسسة الزواج، كما ظهرت بدائل للإشباع الجنسي، كل ذلك كان من العوامل التي وقفت وراء تآكل الزواج؛ فالكثير من الشباب والرجال والنساء باتوا ينظرون للزواج بشكل مختلف عما كان عليه في الماضي.
وفي أوروبا تبدو الظاهرة أكثر إزعاجًا؛ ففي ألمانيا هناك تناقص حاد للأطفال الذين يولدون بصفة عامة، والذين يولدون في أسرة من زوجين، فتشير إحصاءات عام 2023 إلى أنه ولد في ذلك العام نحو (639) ألف طفل، لكن نسبة كبيرة من هؤلاء المواليد كانت من المهاجرين، الذين لا تزال الأسرة تحتل مكانة كبيرة في بنائهم الاجتماعي، وأشارت الإحصاءات الألمانية إلى أنه في عام 2023 انخفضت عدد الزيجات في ألمانيا بنسبة كبيرة فوصلت حوالي (361) ألف حالة زواج، منهم (9200) "زواج مثلي".
وهنا يطرح السؤال نفسه ما علاقة هذا التآكل الانقراضي في مؤسسة الأسرة القائمة على الزواج بين التحديث والعلمنة؟
ولعل من أول نتائج موجات التحديث والعلمنة العاتية في المجتمعات الغربية خلال القرنين الماضيين تحديدًا، هو التراجع الحاد لدور الدين في المجال الاجتماعي، ومع هذا التراجع أخذت قدسية الزواج كعلاقة مشروعة بين الرجل والمرأة تختفي.
كانت الأسرة كمؤسسة قائمة على تمايز الأدوار بين الرجل والمرأة؛ فالرجل يعمل خارج المنزل ويوفر الموارد والإنفاق، والمرأة تقوم بالأعمال داخل المنزل وترعى الأسرة، وفي إطار هذا التمايز التكامل بين الدورين قامت الأسرة بدورها في الإنجاب وتنشئة الأبناء ورعايتهم.
لكن مع التحديث والتصنيع وغياب التمايز بين أدوار الرجل والمرأة خرجت المرأة للعمل، وظهرت دعوات المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ثم تتابعت التطورات في إباحة الشذوذ وإسباغ المشروعية القانونية عليه في عدد الدول الغربية، وزيادة المساكنة بين الرجل والمرأة بدون زواج لتصبح هي العلاقة الأساسية بين الطرفين، ثم زيادة الأسر ذات المُعِيل الواحد سواء كان الأب أو الأم، كل ذلك أدى إلى أن يصبح الزواج عبئًا يتحلل الكثير من الأفراد من تحمل مسؤولياته، خاصة أن الطلاق يؤدي إلى فقدان الرجل الكثير من ثروته، مثل جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون، الذي حصلت زوجته ماكينزي سكوت على نصف ثروته التي تقدر بـ(53) مليار دولار عند طلاقها.
يذهب بعض الباحثين الاجتماعيين الغربيين أن التراجع في التدين وفي الزواج الناجم عن العلمنة لا رجعة فيه، أي أن أزمة الزواج سوف تتصاعد بما يقود إلى انقراض الزواج والأسرة، وهو ما اعترفت به عدد من الكتابات الأمريكية في السنوات الأخيرة، منها كتاب "الانقراض: ربة المنزل الأمريكية والقيم العائلية التقليدية" لمؤلفه "آرون بيجرستاف"، والصادر عام 2015م والذي انتقد فيه حالة الانحطاط في قيم الأسرة في المجتمع الأميركي القائم على الجشع واللذة والمال بفعل الرأسمالية، ونبّه إلى أن أمريكا تستمد قوتها من القيم الأسرية، وبغياب تلك القيم الروحية والعائلة تتحول أمريكا إلى أرض قاحلة وضعيفة أخلاقيًّا.
أو كتاب عالم الاقتصاد الأمريكية "ميليسا كيرني": "امتياز الوالدين: كيف توقف الأميركيون عن الزواج" الصادر عام 2023، والذي تؤكد فيه أن تراجع الزواج في المجتمع الأمريكي كانت له نتائجه وآثاره الكارثية اقتصاديًّا، مستندة في ذلك إلى سنوات طويلة من البحث اقتربت من عشر سنوات لتحليل هذا التلازم بين تراجع الزواج وبين تفاقم حال الفقر الشخصي والمجتمعي.