23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 163
  • رقم الاستشارة : 813
27/01/2025

هل يمكن أن تكون بعض نماذج التدين وما تطرحه من أفكار بعيدة عن روح الدين وحقيقته؟ هل يمكن أن تكون عقبة من النهوض والتطور؟ وهل إصلاح نماذج التدين وأفكاره ضرورة ملحة في الوقت الراهن؟

الإجابة 27/01/2025

يخلط البعض بين التدين والدين؛ فالتدين –ببساطة- هو القراءة الفردية أو الجماعية للدين وتتجلى تلك القراءة في الاعتقاد والسلوك والأخلاق والمعاملات، أما الدين فهو ما يعتبره الناس مقدسًا أو مطلقًا أو روحيًّا وما يمنحهم رؤية بشأن مصيرهم وحياتهم بعد الموت.

وتكررت في التجارب الإنسانية ظهور التناقضات الكبرى بين التدين والدين، ولعل تلك الهوة هي التي شجعت الملحدين وغير الدينيين للنفاذ منها للهجوم على الدين نفسه.

في العصر الحديث عُرض الدينُ على الإنسان المعاصر، وكأنه مجموعة من الأفكار البسيطة الساذجة المنفصلة عن العقل، وليس كقوة روحية وفكرية قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها طبيعة الحياة المعاصرة بتعقيداتها الكبيرة؛ لذا نظر إلى الدين باستخفاف، وأيد هذا الاستخفاف شواهد وأمثلة من واقع التدين، المتمسك بالطقوس بمبالغة، والحريص على القشور، والبعيد عن قضايا الحياة الأساسية والكبرى، وغير الراغب في مواجهة مشكلات الإنسان.

هذا النموذج من التدين كان فتنة كبيرة في عصرنا الحالي، حيث بدا أن هناك خصومة بين الدين والعلم، وبين الدين والعقل، وبين الدين وأزمات الإنسان، رغم أن الكثير من الأديان تقدم نفسها كنظام حياة شامل للإنسان.

وعلى سبيل المثال نجد الشيخ "محمد الغزالي" يرفض فكرة انحصار التدين في الشعائر فقط، ويعتبره نموذجًا خطرًا على الدين ذاته، قائلا: "إن التدين الحقيقي ليس جسدًا مهزولاً من طول الجوع والسهر، التدين الحقيقي إيمان بالله العظيم، وشعور بالخلافة عنه بالأرض"، وكان يردد "إن التدين الفاسد يعتمد على مسائل غبية، موهما أنها مسائل غيبية".

وفي هذا الصدد يمكن أن نقدم من الخبرة المسيحية والإسلامية نماذج للتدين الذي كان حجرة عثرة وعقبة في وجه الرؤى الإصلاحية التي تستهدف النهوض، وربما كانت قيمة العمل إحدى القيم التي خصها التدين بالكثير من الأفكار والممارسة الخاطئة؛ ففي الخبرتين نجد نماذج للتدين شجعت على الاتكال واحتقرت قيمة العمل وحضت على الكسل والقعود والبطالة والبطنة.

ففي الفكر المسيحي، ومع بداية حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الميلادي التي أنتجت المذهب البروتستانتي، واجهت تلك الحركة الإصلاحية، مفاهيم الكهنوتية التي تحول بين اتصال الإنسان بربه إلا من خلال وسيط، واستطاعت إزاحة هذا الوسيط الذي كان أحد معايير التدين في ذلك الزمان؛ وهو ما أفسح للعقل مجالاً رحبًا للتفكير والانطلاق.

ومن ناحية ثانية واجهت حركة الإصلاح الديني أحد التجليات السلبية للتدين في ذلك الوقت وهي قيمة العمل، والذي كان يُنظر إليه نظرة دونية، وكان ترك العمل أحد معايير التدين، فجاءت الحركة الإصلاحية وجعلت الكسب والعمل نشاطًا دينيًّا مقدسًا، وبذلك نقلت العمل ليكون أحد الأسس التي تقوم عليها الحياة الحديثة، وأسبغت على العمل قيمًا روحية ودينية، وأصبح شعار"لا خبز للمتعطل" شعارًا مسيحيًّا، وبذلك حاربت التدين الفاسد، وأوجدت مفاهيم أخرى للتدين الفاعل في الحياة، ونجح هذا المسار الجديد في النهوض بالحالة الأوروبية وأصبح العمل عنصرًا جوهريًّا في بناء الأفراد المجتمعات.

أما الخبرة الإسلامية، فنجد نماذج قوية لنقد التدين الفاسد الذي يعاند قيمة العمل ويشجع الأوهام والاتكالية، فنجد العلامة ابن خلدون، يشير إلى أن مع انهيار الدول تكثر الأفكار الضالة التي ترتدي ملابس الدين، فيقول: "عندما تنهار الدول يكثر المنجّمون، والأفّاكون، والمتفيهقون، والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر".

وقدم نموذجًا شعبيًّا للتدين الذي يستعين بالتنجيم والخرافات للحصول على الثروة والذي يشجع على الاتكالية، فيقول: :"اعلم أن كثيرًا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض، ويبتغون الكسب في ذلك، ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها بطلاسم سحرية لا يفض ختامَها ذلك إلا من عثر على علمه، واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان".

وأكد "ابن خلدون" أن الكسب والإنتاج والعمران لا يتحقق إلا بالعمل، فيقول: "فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول؛ لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن، فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع".

ونجد العلامة "أبو الفرج بن الجوزي" (المتوفى 597هـ=1200م) يقدم نموذجًا فريدًا لنقد التدين الفاسد والمغشوش خلال عصره، فالرجل عاش حياة طويلة قاربت التسعين عامًا، ورأى تحولات مقلقة في حقل التدين باعدته عن حقائق الدين الراشدة، فألّف كتابين أولهما "تلبيس إبليس" والثاني "صيد الخاطر" انتقد فيهما نماذج التدين التي قدمها بعض من المتصوفة والقراء والفقهاء في عصره، مثل سلوكيات المتصوفة -مثلا- داخل التكايا والأربطة التي أخلدوا فيها للبطالة، وتمسكوا بالثياب المرقعة دون الوصول لحقائق الدين وغاياته، وانصرف هم بعضهم إلى الطعام بالنهم، حتى قيل في حقهم "نعوذ بالله من العقرب والفار، ومن الصوفي إذا عرف الدار"، وانصرف آخرون إلى الطعام بالحرمان، ورأى "أبو الفرج" أن كليهما نموذج للتدين المبتعد عن حقيقة الشرع الذي طالب بتجنب الإفراط والتفريط.

وفي التجربة الإسلامية، كان التدين السلبي عقبة في سبيل التحرر والنهوض يشير كتاب "الصوفية: نشأتها وتاريخها" للباحث الأمريكي "نايل جارين" إلى أن بعضًا من التصوف في الهند حوّل المقاومة من الاستعمار البريطاني إلى الداخل الشخصي نحو المساحة المتمثِّلة في الجسد، بعد ما كانت الصوفية هي التي تواجه الاستعمار من خلال حركة الشيخ "أحمد البريلوي" في القرن التاسع عشر الميلادي.

أما كتاب "الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية" لـ"التلليلي العجيلي" فيذكر أن بعض الطرق الصوفية صرف المريدين إلى الأوراد، وبنى مفاهيم مغلوطة عن الدنيا، ووجّه أتباعه إلى الزهد في الحياة، زاعمًا أن ذلك من أسباب الترقي الروحي، وعندما غضب الناس من تجاوزات السلطات الاستعمارية، طالب أحد كبار الصوفية بتهدئة الخواطر، وضرورة الانقياد لفرنسا، واحترام القوانين، وهو ما ساهم في إضعاف العزائم.