الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
244 - رقم الاستشارة : 687
14/01/2025
هل هناك أفكار تقف وراء إضعاف سلطة الأب في الأسرة؟ وهل هناك علاقة بهذا الأمر بتقويض مفهوم السلطة بصورة عامة سلطة التوجية والإرشاد والتربية والإصلاح؟
تتصاعد مهاجمة النسويات لسلطة الأب داخل الأسرة، وتصر النسوية على تصوير الأسرة كحلبة صراع مع السلطة الذكورية المتمثلة في الأب، وترافقت التحولات الاقتصادية والاجتماعية، مع تحولات داخل أهم وأقدم مؤسسة اجتماعية وهي الأسرة، فنشطت الكثير من العوامل التي تغذي التباعد الاجتماعي في الأسرة الواحدة، وهو ما يتوافق مع منطق الفردانية، الذي يروج أن الفرد قادر على تحديد ما هو صالح أو غير صالح أخلاقيًّا.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأزمة الأسرة تتفاقم في المجتمعات الغربية؛ فالقيمة الاجتماعية للعفة، واعتبار الإنجاب الركيزة الأساسية للأسرة، واحترام سلطة الأب، كل ذلك كان من العوامل التي قاومت التفكك الأسري، لكن التطورات المتلاحقة والتوسع الصناعي والانتشار العلماني، وبروز خطاب الحريات وحقوق الإنسان وامتداده إلى الحيز الأسري، والحرب التي لا هوادة فيها والتي تشنها النسوية على السلطة الأبوية، كل ذلك كان له آثاره الواضحة على دور الأب داخل الأسرة.
وقد حذر باحثون غربيون من أن تقويض سلطة الأب هو تقويض للأسرة، وتقويض الأسرة هو تقويض للمسيحية، فهناك ارتبط بين التدهور الديني وبين التدهور الأسري، فالاثنان يسيران جنبًا إلى جنب، وتداعي البناء الأسري يصب في تداعي الإيمان.
الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، حدد ثلاثة مبادئ للأسرة الحداثية أو كما أسماها الأسرة الدهرية (نسبة إلى الدهر) والتي رآها وريثة الحداثة الغربية، حيث قطعت صلتها بالأخلاق، بعدما كانت الأسرة هي المزود الأساسي للأفراد بالأخلاق والقيم، وهذه المبادئ، هي:
- التمركز حول الإنسان بعد الانفصال عن الخالق سبحانه وتعالى: فهذه الأسرة ترى أن الإنسان قادر على أن يملك زمام نفسه ويحدد مصيره، من خلال رغباته ومصالحه.
- الانفصال عن الوحي والاعتماد على العقل، هذه الأسرة اعتبرت أن العقل هو من يهديها ولا شيء غيره، وليس لأحد أن يملك السلطة ليقرر ما هو صالح وغير صالح إلا العقل.
- الفردانية: ومع التعلق بالدنيا ومتعها، تم نسيان الآخرة، واغترف كل إنسان من المتع وفق ما تمليه شهواته ورغباته، ومنطقه في ذلك إنْ "كان كل فرد هو الحكم الوحيد لما سيسعده؛ فالفرد وحده هو القادر على تحديد ما هو صحيح أخلاقيًا".
وإذ كانت أسرة هذه منطقها ودعائمها، وهذا هو سعيها لتتفلت من سلطة الرب سبحانه وتعالى، فليس بمستغرب أن تسعى لتتفلت من سلطة الأب أيضا.
ويرى طه عبد الرحمن في كتابه "روح الحداثة" أن تلك الأسرة تشبعت بروح الحداثة فجعلت الأسرة محلًا للهناء لا محلًا للبقاء، بعدما فصلها عن الاستمداد من القيم الدينية، وأصبحت المادية لا الأخلاقية هي التي تستمد منها الأسرة مُثُلها وقيمها، وصارت الاستهلاكية قيمة مركزية في الأسرة الجديدة، وتراجعت قيمة المودة والرحمة، كل ذلك أدى إلى اختلال الوظيفة الأخلاقية بين الأفراد، وفقدت الأسرة قدرتها على التنشئة والإصلاح والتهذيب، ثم جاء التشريع ليقنن تلك الحالة من الاضطراب في الأسرة، وكانت سلطة الأب هي أول ما تعرض للانتهاك والانتقاص.
وحسب أستاذ الاجتماع اللبناني "طلال عتريسي" فقد تمت شيطنة "الأبوة"، وأصبح مطلب الإطاحة بالنظام الأبوي والتخلص منه مطلبًا حديثًا لمصلحة المرأة، بغض النظر عن حالتها الزوجية، (ابنة أو زوجة)، وظهر الادعاء بأن النظام الأبوي قد تجاوزه الزمن وبات من الماضي، وهذا ما حوّل العلاقات داخل الأسرة إلى علاقات صراعية ليس بين الرجل والمرأة فقط، بل بين الأبناء والوالدين، وفي مثل هذه العلاقات لا يمكن أن نلحظ أي إشارة، أو أي دعوة إلى أخلاقيات وعلاقات قائمة على التضحية، والمودة، والرحمة، والصبر، والتحمّل.
في العام 1938 نشر "أحمد أمين" كتابه "فيض الخاطر" وفاض خاطره بالحديث عن الأب ومكانته، وتندر على الأزمة التي تشهدها السلطة الأبوية في ذلك الزمن، وقال: "رحم الله زمانًا كان الأب فيه الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق مَن في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غُنم.."، ثم يلفت "أحمد أمين" الانتباه إلى أن سلطة الأب لم تكن مستبدة أو دنيوية فقط، ولكنها كانت سلطة تُلهم القيم وتغرسها وتحض على التنشئة الصالحة، فيقول: "وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية، فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداءَ لا قضاءَ"، ثم ينتقل أحمد أمين ليتحسر على ما أصاب تلك السلطة الأبوية، فيقول: "لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره، وحلوه ومره، واستقبلنا زمانًا سار فيه الأبناء آباءَ".