الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
53 - رقم الاستشارة : 1368
18/03/2025
هل يؤثر الذكاء الاصطناعي على التفكير وبخاصة التفكير النقدي؟ وهل إحلال الآلة محل العقل يضعف العقل وقدرته على التفكير؟
الإشكالات الفكرية والثقافية المتعلقة بتأثيرات الذكاء الاصطناعي على الإنسان من القضايا المُلحة؛ فالذكاء الاصطناعي أحدث تغيرات عميقة في مختلف جوانب الحياة، ولم تعد الحماية من هذا التوغل بالامتناع عن التعاطي مع المنجزات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، فذلك مستحيل، ولكن لا بد من تعاط إيجابي قائم على ترشيد الاستخدام وإدراك المخاطر.
الذكاء الاصطناعي قدّم طرقًا جديدة وسريعة وفعالة لمعالجة المعلومات وحل المشكلات واتخاذ القرارات، خاصة إذا عرفنا –مثلا- أن الحواسيب العملاقة أصبحت اليوم أسرع بعشرة ملايين مرة من حواسيب أوائل التسعينيات، وهذا الإنجاز الكبير كان له تأثيرات على القدرات الإنسانية، وبخاصة العقل وما ارتبط معه من تفكير وإدارك وتأمل وتحليل وتفسير، ولعل أهم ما يميز التفكير النقدي هو قدرته على تقسيم المعلومات خاصة المعقدة إلى مكونات بسيطة لفهمها بشكل أفضل، ثم البحث في العلاقات بينها.
معضلة فلسفية: الحقيقة أن معضلة العلاقة بين الإنسان والآلة، لها جذور، تعلق بعضها بالنظر إلى طبيعة الإنسان نفسه، حيث ركّزت بعض الفلسفات على الجسدية في الإنسان، بما فيها قواه العقلية والروحية، فبعضها رآه حيوانًا متميزًا بالتفكير، ورآه آخرون كائنًا متطورًا عن حيوانات سابقة.
وتلك النظرة انعكست في الرؤية للعلوم القادرة على تفسير الطبيعة الإنسانية، فنجد مثلا منهج الشك الديكارتي، اعتقد أن الرياضيات والعلم قادران على تفسير كل شيء في الطبيعة، وربما تلك الرؤية هي ما يستمد الذكاء الاصطناعي بعضًا من رؤيته لفهم الإنسان، والإمكانات التي يملكها هذا الذكاء الاصطناعي.
مستقبل التفكير النقدي
الكثير من الدراسات الغربية القائمة على استطلاعات الرأي، ودراسات الدماغ، وكذلك الأبحاث في الجانب التربوي والتعليمي والنفسي، تؤكد أن زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي له تأثيرات سلبية على التفكير النقدي؛ إذ يخلق حالة من الاعتمادية العقلية على الذكاء الاصطناعي للقيام بالمهام الإنسانية في التفكير والتحليل واتخاذ القرار.
ومن تلك الدراسات ما أنجزته إحدى الجامعات في زيورخ بسويسرا، في دراسة موسعة نشرت عام 2025م، بعنوان "الذكاء الاصطناعي ومستقبل التفكير النقدي" خلصت إلى أن الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤثر سلبًا على مهارات التفكير النقدي، وأن هناك علاقة سلبية كبيرة بين الاستخدام المتكرر لأدوات الذكاء الاصطناعي وقدرات التفكير النقدي، وأن المشاركين الأصغر سنًا، الذين يعتمدون بشكل أكبر على أدوات الذكاء الاصطناعي، لديهم درجاتٍ أقل في التفكير النقدي مقارنةً بالمشاركين الأكبر سنًا الأقل اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي.
ذكرت الدراسة أن التفكير النقدي يعتمد على عمليات معرفية مختلفة، ومتنوعة لاتخاذ القرار ومن بينها التفكير التأملي، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقلل الاعتماد على التفكير التأملي، كما أن الشخص الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي بصورة عالية، يحرر كثيرًا من المعارف والمعلومات التي يختزنها عقله، ويلجأ إلى ما يطرحه عليه الذكاء الاصطناعي من حلول سريعة وجاهزة، وهو ما يضعف عزيمة الإنسان وهمته في التفكير، ويضعف قدرة الإنسان على مواجهة الحياة اليومية التي تحتاج إلى قرارات متلائمة مع طبيعة المواقف.
وأشارت الدراسة إلى مجموعة من المخاوف الأخرى، منها ما يتعلق بالتحيزات المعرفية للخوارزميات؛ فالذكاء الاصطناعي مزود بمعلومات وطريقة عمل، ترتبط بأشخاص قاموا بتزويده بتلك البيانات، ومن ثم فهو متأثر بالمدخلات السابقة، ولذا تكون مخرجاته متوافقة مع هؤلاء الأشخاص والجهات، ولن يكون في مقدوره مراعاة الفوارق الثقافية والاجتماعية.
أخيرًا...
من الخطأ النظر للعقل والذات الإنسان كذاكرة وقوة استرجاعية للمعلومات المخزنة، وبالتالي يمكن تحقيق تفوق على هذا العقل الإنساني من خلال زيادة القوة الاستيعابية للذاكرة المدمجة، وسرعة استدعاء المعلومة، وبحث الروابط بينها، ولعل هذا ما جعل بعض الباحثين في المراكز البحثية الكبرى مثل "مختبر الذكاء الاصطناعي بمعهد ماساتشوستس، اعتقدوا أنه يمكن جعل الآلة ذكية كالإنسان من خلال تخزين حقائق وقواعد لا سياق لها، مما يُقلل وقت البحث، وظن هؤلاء أن الفطرة الإنسانية يمكن إنتاجها في الآلات من خلال ترميز عشرة ملايين حقيقة حول الأشياء ووظائفها.
لكن الحقيقة أن البشر أكثر تعقيدًا بكثير مما كانوا يعتقدون؛ فالإنسان روح ووجدان وباطن شديد العمق، وهناك نية وقصد ومشاعر، وكل ذلك لن يخضع للآلة، ومن ثم ستكون هناك مساحة حرة دومًا للإنسان للتفكير النقدي المتفوق على الآلة.