الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
115 - رقم الاستشارة : 1623
14/04/2025
انشغل العالم العربي مؤخرًا بحفل زفاف الإنفلونسر نارين بيوتي، التي تزوجت رجلًا من غير دينها، لتصبح حديث السوشيال ميديا والشغل الشاغل للناس. وسرعان ما تتبعها مشهورة أخرى لمحاولة كسر الرقم، وبعدها أخرى، وهكذا... سلسلة من الأعراس الفاخرة، حيث تُنفق كل واحدة أموالًا طائلة لتتصدر الترند. وفي المقابل، شبابنا وبناتنا تتحسر عيونهم، وأهلنا في غزة يُقتلون بصمت. فأين نحن من البساطة؟ ومن القيم؟ ومن مسؤوليتنا كأفراد ومجتمع؟
نُناشد علماءنا ومفكرينا: نحتاج إلى خطابٍ يُعيد توعية الشباب، ويفكك هذا الوهم الذي يُسوّق تحت اسم "الحب" و"الزواج"، بينما هو في جوهره استعراضٌ واستهلاكٌ واغتراب.
أسئلة عميقة للنقاش: حول تأثير هذه الظاهرة على القيم، الشباب، والمجتمع:
1. الهوية والقيم:
هل تحوّل الزواج من "مؤسسة اجتماعية" إلى "عرض هوياتي"؟ كيف نُعيد تعريف "النجاح الزوجي" بعيدًا عن مظاهر الترف؟ ما الذي نخسره عندما يصبح الزواج منافسةً مرئية بدلًا من شراكة إنسانية؟
2. تأثير السوشيال ميديا:
لماذا ينجذب الشباب لتقليد أعراس المشاهير رغم وعيهم بعدم واقعيتها؟ كيف نواجه "وهم الكمال" الذي تروّجه المنصات؟ هل أصبحت اللايكات شكلاً من أشكال العنف الرمزي ضد الشباب العادي؟
3. الجانب الاقتصادي والاجتماعي:
كيف تُغذّي ثقافة الأعراس الفاخرة عدم المساواة الطبقية؟ ما البدائل العملية لتقليل التكاليف دون إلغاء البهجة؟ لماذا يسهل صرف الملايين على زفاف ويصعب استثمارها في بناء حياة؟
4. الجانب الديني والثقافي:
ما تفسير التناقض بين تعاليم الدين في بساطة الزواج وضغط المجتمع على التباهي؟ هل يستطيع الخطاب الديني كسر التبعية الاستهلاكية؟ وهل يمكن للأعراس البسيطة أن تتحوّل إلى "موضة إيجابية" بقيادة مؤثرين مسؤولين؟
5. البُعد النفسي:
هل يعكس هوس الأعراس الفاخرة فراغًا داخليًا أو تعويضًا عن نقص اجتماعي؟ كيف نتعامل مع مشاعر النقص أو الحسد الناتجة عن مقارنة الذات بالمشاهير؟ وما أثر هذه الظاهرة على الصحة النفسية للمقبلين على الزواج؟
6. أسئلة المستقبل:
كيف ستبدو ثقافة الزواج بعد 10 سنوات إذا استمر هذا الاتجاه؟ هل يمكن أن تتحوّل الأعراس البسيطة إلى شكل من أشكال "التمرد الثقافي" ضد الاستهلاك؟ وما الدور المطلوب من الأسرة، والتعليم، والإعلام في المواجهة؟
في البداية أشكركم على زفرة الألم على الحالة التي وصلت إليه بعض المجتمعات المسلمة، من تحويل نعمة الزواج التي تحدث عنها القرآن على أنها آية تستوجب التفكر والشكر، لتكون وسيلة لغرس الصراع والطبقية والاستفزاز داخل المجتمع، وتحريض غير القادرين على النقمة على حالهم وهم يرون هذه الحالة من البذخ والترف بل والطغيان الاستهلاكي.
لكن أحب أن أنظر لتلك القضية التي يطرحها السؤال من منظور تأثير الاستهلاك الاستفزازي على ثقافة المجتمع وقيمه بل وهويته؛ لأن هذا الاستفزاز ينقل تلك الطبقة والفئة، التي تملك مقدرات الثروة الضخمة، ليضعها في ثقافة مغايرة وقيم مغايرة ويضعها على طريق تبني خطاب ثقافي مناهض ومعاد لقيم المجتمع المسلم.
السؤال المطروح هو حالة قديمة متجددة ولن تنتهي إلا بأن تقترن الثروة بمنظومات إيمانية وإنسانية من القيم والأخلاق والفضائل؛ فالثروة بدون فضيلة أو خلق أو ضوابط، ما هي إلا كارثة، ليس فقط في هدر المال والمقدرات والموارد، ولكن في هدر القيم وخلخلة وشائج المجتمع.
وهذا الاستهلاك الاستفزازي التبديدي أطلق عليه القرآن مصطلح "الإسراف" و"التبذير"، وهذا الاستهلاك الاستفزازي ناتج عن عوامل متعددة منها الذاتي، حيث يرى الشخص أن قيمته تتحقق من خلال الاستهلاك ونوعية الاستهلاك، وهذا يجعله يسرف في الاستهلاك كنوع من تحصيل المكانة والسمعة وذيوع الصيت.
ويلاحظ أن بعض دارسي الاقتصاد يربطون بين الاستهلاك الاستفزازي وبين أشياء أخرى منها الاستغلال، فهذا الاستهلاك الاستفزازي يقابله ثقافة استغلالية جشعة؛ إذ يتجه هذا الاستهلاك الاستفزازي إلى تركيز التمايز الاقتصادي في المجتمع وترسيخ الطبقية، لينقسم المجتمع إلى طبقة ضئيلة تملك الثروة وتهدرها بلا حساب ولا ضابط، وطبقات أخرى تدور بين الكفاف والعوز وينهشها الفقر والحاجة .
هذه الحالة تتولد فيها الاحتفالات الصاخبة في كل شيء في أعياد الميلاد، وحفلات الزواج، حتى حفلات الطلاق، تشير بعض الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن هذا الاستهلاك الاستفزازي له وجه آخر، هو حالة الفراغ وغياب المعنى التي يعيشها ذلك الفرد وتلك الفئة الاجتماعية، والتي تسعى لملء الفراغ من خلال الصخب والضجيج والاستهلاك والانغماس في الشهوات والمسكرات واللذائذ؛ فالصخب يشغب على صراخ النفس والروح الموجوعة من غياب الغاية والمعنى.
وتشير بعض التحليلات النفسية إلى ارتباط الاستهلاك الاستفزازي بالاحتفالية؛ فـ "الاستهلاك المفرط للسلع الثمينة وسيلةٌ لتعزيز سمعة الرجل المترف، فمع تراكم الثروة بين يديه، لن يُجدي جهده وحده نفعًا في إبراز ثرائه بهذه الطريقة. ولذلك، يُستعان بالأصدقاء والمنافسين من خلال تقديم الهدايا الثمينة والولائم والمناسبات الفاخرة. ولعلّ للهدايا والمناسبات أصلاً آخر غير التباهي الساذج، لكنها استُخدمت لهذا الغرض منذ زمنٍ بعيد، واحتفظت بهذه الصفة حتى اليوم؛ حتى أن فائدتها في هذا الصدد أصبحت منذ زمنٍ طويل الأساس الجوهري الذي تقوم عليه هذه العادات. أما وسائل الترفيه الباهظة، مثل الحفلات الراقصة أو الحفلات الراقصة، فهي مُهيأةٌ خصيصًا لخدمة هذه الغاية".
هذا الاستهلاك الاستفزازي يقابله نوع من التقطير الشديد في وجوه الخير والبر والنفع، وأتذكر هنا ما كتبه الأديب الكبير أحمد حسن الزيات على صفحات مجلة "الرسالة" قبل أكثر من ثمانية عقود، عن حالة الثروة المكتنزة فيقول: "حبسوا مشاع الرزق في خزائن من الحديد ومخازن من الإسمنت؛ ثم جعلوا عليها أقفالاً من صنع الشيطان لا تنفتح إلا لتأخذ... ما رأيت قارونيًّا إلا ملكني نوع من الشعور يحسه من يلقى سجان النعمة وحابس القوت وغاصب الحياة. وكان في مقدور كل غني أن يكون رسول سلام وملاك حب لو أنه فقه معنى الدين، وفهم حقيقة الإنسان. وإن اللذة التي يجدها الغني البر حين يرى صنائعه يرتعون في معروفه ويستظلون بجاهه، لأصدق وأعمق من اللذة التي يدركها الغني الفاجر حين يرى ضحاياه يغمسون خبزهم في الدماء والدموع والعرق".