Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 20
  • رقم الاستشارة : 1180
03/03/2025

هل هناك علاقة بين شعيرة الصيام ومفهوم الإرادة، على اعتبار أن الإرادة أحد المفاهيم المرتبطة بالعقل؟ وهل يمكن مخاطبة الناس جميعا بأن الصيام يمتلك برنامجًا فعالاً لتقوية الإرادة؟

الإجابة 03/03/2025

شعائر الإسلام وعباداته، مذخورة بالمعاني العظيمة القادرة على رسم طريق الخلاص والهداية للناس، وهي تحتاج أن تُقدَّم للناس باللغة التي يفهمونها وتكون قريبة من عقولهم وأفهامهم، ومن تلك الشعائر العظيمة صوم رمضان، خاصة الارتباط بين الصوم وتقوية الإرادة.

 

ومفهوم الإرادة من المفاهيم التي ناقشها الفلاسفة على مدار 2500 عام، منذ أفلاطون وأرسطو، مرورًا بالفلسفات المتعاقبة في العصر المسيحي وعصر التنوير الأوروبي، والفلسفة الإسلامية؛ إذ نوقشت الإرادة على أرضية الحرية وعلى الأرضية الأخلاقية عند بعض من الفلاسفة.

 

الإرادة والحرية

 

في العام 2018 أصدرت الكندية "كيت فلاندرز" كتابها "أقل من عام: كيف توقفت عن التسوق" تشرح فيه تلك الشابة تجربتها التي استمرت قرابة العام، توقفت فيه عن النهم الشره للتسوق، ولم تلجأ إلى الشراء إلا لما هو ضروري في حياتها فقط، وبعد ذلك العام اكتشفت أن الحياة فيها ما يستحق غير التسوق في المتاجر والمولات، وأنها قبل ذلك العام، قد وقعت في دائرة الاستهلاك المفرط، تلك النزعة التي سيطرت عليها، فكان الشراء من أجل الشراء، والعمل من أجل الشراء، ولا تفكير إلا في الشراء، وفي هذه الدائرة الملهية لم تشعر بالسعادة والراحة، فكان الرغبة للشراء في داخلها لا تنطفئ، وأمام تلك الحالة المرضية قررت أن تتوقف عن الشراء مدة عام، ونجحت تجربتها.

 

كانت مقاومة النفس في رغبة من رغباتها، وقهر هذه الرغبة المدمرة، من أسباب السعادة وإعادة اكتشاف الذات والحياة، وأن هناك جوانب في الحياة تسترعي الاهتمام، لكن الأهم في التجربة هو أن قوة الإرادة كانت لحظة حرية لها، حررت نفسها من ذلك الشعور القهري للتسوق، والذي كان يخضعها لإملاءته التي لا تنتهي ولا تشبع، وخلصت من تجربتها إلى أنه كلما كان الاستهلاك أقل كان الرضا أعلى.

 

ذكرتني تلك التجربة الفريدة، بحقيقة الصوم، وهو أنه يحرر الإرادة الإنسانية من الخضوع لمسببات الحياة من الطعام والشراب والعلاقة الزوجية، أي أنه يمنعه من أسباب الوجود وأسباب الاستمرار في الحياة، ويجعله يمتنع عن هذا الحلال ساعات طويلة، رغم أن كل شيء متاح أمامه يستطيع أن يناله بعيدًا عن أعين الناس، لكن الإيمان يحرض إرادته أن تتخذ الموقف الصحيح في الالتزام بما يطلبه الشرع في إتمام الصوم بالطريقة الصحيحة، ليصبح هو رقيبًا على نفسه، وخلال الثلاثين يومًا من الصيام يحدث التغيير، ويصبح الصائم ذا إرادة أقوى على مقاومة الإغراءات المختلفة حتى وإن كانت تمس صميم حياته في الطعام والشراب، وكأنه يعلن أن إرادته طليقة حرة غير خاضعة لأي قوة مهما كانت.

 

وهنا أشير إلى مقال قديم كتبه شيخ العربية أبو فهر الشيخ محمود شاكر –رحمه الله تعالى-  عام 1950 بعنوان "عبادة الأحرار" حيث لفت الانتباه إلى مغزى عظيم في الصيام وحكمة غابت عن الكثيرين، فيؤكد أننا صرفنا معنى الصوم إلى المواساة للفقير أو إلى صحة الأبدان أو تأليف القلوب، وتلك معان قد تزول بنهاية الشهر، فيقول عن الصوم: "هو عتق النفس الإنسانية من كل رقٍّ: من رقِّ الحياة ومطالبها ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، ومن رقِّ المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل. فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا. ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق- لا يرضى لها أن تذلَّ لأعظم حاجات البدن؛ لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة؛ لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض؛ لأنها أعزُّ سلطانًا منها".

 

ثم يقول: "ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام- لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقرُّ فيها ظلم؛ لأن للنفوس المسلمة بطشًا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله، ولا يملك رقَّها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما. ولرأينا الأرض المسلمة لا يستولي عليها الاستعمار؛ لأن النفوس المسلمة تستطيع أن تهجر كل لذة، وتخرج من كل سلطان، وتستطيع أن تجوع وتعرَى، وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحقِّ الأعلى، وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها، وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان. واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس".