الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
326 - رقم الاستشارة : 751
21/01/2025
تهتم مراكز الأبحاث الإسرائيلية بدراسة الحركة الصليبية لماذا هذا الاهتمام بدراسة الحركة الصليبية وهل هناك تشابه بين المشروع الصهيوني والمشروع الصليبي؟
توقف إطلاق النار في غزة بعد 470 يومًا من القتال والقتل والتدمير، لكن الحقيقة أن "طوفان الأقصى" أكد مخاوف كبرى يستبطنها المشروع الصهيوني، وهو أن مصيره لن يختلف عن مصير الحركة الصليبية التي جاءت إلى الشرق من وراء البحار ساعية لبناء قواعد لها في الشرق، وبعد ما يقرب من مائتي عام من القتال رحل الصليبيون.
إن ما أثاره طوفان الأقصى أكد حتمية المسار الصهيوني في الشرق على غرار المسار الصليبي، وأن مرور السنوات لا يزيده إلى ضعفًا للقوة، وخفوتًا لجاذبية مشروع حالم بإنشاء وطن قومي لليهود وسط هذا الطوفان البشري العربي والإسلامي.
في مقال للكاتب البريطاني "ديفيد هيرست" في يونيو 2024، بعنوان "هل تسير إسرائيل على خطى الصليبيين؟" يقول "هيرست": "أصبحت إسرائيل مركزًا مهمًّا للدراسات الصليبية، أو ما يسميه الباحث "ديفيد أوهانا" "القلق الصليبي"، أو"الخوف المؤلم الخفي" من أن "ينتهي المشروع الصهيوني" إلى "التدمير" الكامل كما حدث مع أسلافهم المسيحيين، أصبح جزءًا لا يتجزأ من النفسية الإسرائيلية، أو على الأقل من نفسية أولئك الذين يدركون هذه التشابهات التاريخية الحاسمة"، وأن أكبر عاملين للتشابه هما: القوة العسكرية والدعم الخارجي.
الفارق الزمني بين المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في 29 أغسطس 1897م، والذي دعا إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبين انتهاء الحروب الصليبية 1291م، قرابة الستة قرون، إلا أن خبرة الحروب الصليبية وما آلت إليه من فشل، ظلت إنذارًا مرعبًا للحركة الصهيونية، أسماها المؤرخ "شاكر مصطفى" "عقدة الصليبيات" التي تلاحقهم، وتؤرق استقرار المشروع الصهيوني، فتوغلوا في دراسة التجربة الصليبية سعيًا وراء سراب مخادع بتجنب المصير القادم، وتجنبًا لحطين صهيونية على غرار حطين الصليبية، آملين أن تمنح تلك الدراسات للصهيونيين الوسائل لتجنب خروج العرب من حال التشتت والتمزق نحو الوحدة والتماسك.
يذكر المؤرخ "شاكر مصطفى" أنه في العام 1969، وفي ظل أجواء هزيمة يونيو حزيران الكئيبة، وقع بين يديه كتاب بعنوان "الإسلام والصليبيات" لـ"عمانويل سفيان"، وكانت مفاجآت الكتاب كثيرة، منها: أن الجماعات اليهودية تدرك التشابه الكبير بين تجربتها في فلسطين وبين الخبرة الصليبية، وتنطلق من هذا الإدراك لاستخلاص رؤى علمية لتلافي الأخطاء الصليبية، لكن أهم ما لفت انتباه "شاكر مصطفى" حينها وجود فرق عمل كاملة في الجامعة العبرية تتخصص في هذا الموضوع.
يحكي المفكر والمؤرخ اليهودي "يوري أفنيري" عن قصة انشغاله بدراسة الحركة الصليبية، في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وكيف أنه لاحظ التشابه بين الحركتين الصهيونية والصليبية، ففي العام 1948م، عقب سيطرة اليهود على الكثير من الأراضي الفلسطينية، باستثناء قطاع غزة، في تلك اللحظة قرأ "أفنيري" كتاب "ستيفن رانسيمان" بعنوان "تاريخ الحروب الصليبية"، ولاحظ "أفنيري" أن الصليبيين عقب الحملة الأولى، تركوا نفس المنطقة، وأقاموا عددًا من التحصينات حولها، يقول "أفنيري" عقب قراءته للكتاب الضخم ذي المجلدات الثلاثة: "فعلت شيئًا لم أفعله من قبل أو منذ ذلك الحين: كتبت رسالة إلى المؤلف، وسألته: هل فكرت يومًا في التشابه بينهم وبيننا؟".
فرد عليه "رانيسمان": أنه كان يفكر في ذلك طوال الوقت. ولقد أراد أن يسمي الكتاب "دليل للصهاينة" حول كيفية تجنب القيام بذلك، لكن نصحه أصدقاؤه اليهود بعدم القيام بذلك.
فعقب نشأة إسرائيل صعد الاهتمام بالدراسات الصليبية في الجامعة العبرية، ودراسة أسباب فشلها، رغم نجاح الصليبيين في إنشاء أربع دول قوية، واستمرار بعضها أكثر من 190 عامًا.
وقد صدر أول كتاب إسرائيلي عن الصليبيات، قبل قيام إسرائيل بسبعة عشر عاما، ففي العام 1931 أصدر المؤرخ الإسرائيلي "شموئيل أوسيشكين" كتابه "الغرب في الشرق: تاريخ الصليبيين في أرض إسرائيل" والذي قال فيه: "إن الإشكالية الجوهرية التي واجهت الصليبيين هي ذاتها التي تواجه اليوم بني إسرائيل"؛ فالمحيط السكاني العربي يحيط بالكيان الصهيوني من كل جانب، وكما قال رئيس الوزراء السابق "إسحاق شامير": "البحر هو نفس البحر والعرب هم نفس العرب"، فعلاقات العداء ستستمر، حتى وإن تخللها فترات من الهدنات الزائفة.
في كتابه "القراءة الصهيونية للتاريخ: الحروب الصليبية نموذجًا" يقدم المؤرخ "قاسم عبده قاسم" نموذج المؤرخ الإسرائيلي "يوشع براور" الذي شغل أستاذ تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس، والذي قدم دراسات مهمة عن التشابه بين الحركة الصهيونية والحركة الصليبية، والتي بدأت دراساته منذ العم 1941م، واستعرض "قاسم" أكثر من (84) دراسة وكتابًا وبحثًا قدمه "يوشع" في هذا المجال، تؤكد الاهتمام الصهيوني بدراسة الحركة الصليبية، بدءًا من مشاكل الاستيطان الصليبي ومشكلة الموارد، ودراسته عن بعض الممالك الصليبية مثل مملكة بيت المقدس، ونهايات الوجود الصليبي لتلك المملكة في الأرض العربية، وقدّم دراسات شاملة لكافة الأبعاد الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية، عن الحركة الصليبية ساعدت على فهم أعمق للتشابه مع المشروع الصهيوني.
ومن الإحصاءات المهمة التي قدمها "يوشع" أن المجموع الكلي للصليبيين في المنطقة العربية كان حوالي (ربع مليون نسمة) فقط، وهي نسبة ضئيلة بالنسبة للمحيط العربي، وكان رأي "يوشع" أن ما أتاح لهذا الربع مليون صليبي الاستمرار في هذا المحيط لعربي المعادي لهم، هو الانقسام العربي وتشرذم القوى العربية وغياب الوحدة، وبرأيه أن وجود الوحدة العربية كان كافيًا للقضاء على المشروع الصليبي، ونشير هنا إلى أن عدد اليهود في فلسطين عند صدور وعد بلفور عام 1917 كان خمسين ألفًا، يقابلهم (650) ألفًا من العرب في فلسطين، أي أكثر من (12) ضعفًا.
وهنا تنبه الدراسات الصهيونية للحركة الصليبية إلى الدرس المهم، وهو أن التفوق العددي للعرب والمسلمين في مواجهة الصليبيين جعل الحرب هي الحالة الدائمة للعلاقات، فكانت العسكرة الدائمة للحركة الصليبية، وهو أمر يتشابه مع ما تقوم به إسرائيل، فهي تنتقل من حرب إلى حرب، ومن قتال إلى قتال، فلا تهدأ جبهة حتى تشتعل أخرى.