الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
4 - رقم الاستشارة : 1856
06/05/2025
هل أسهمت الحضارة الإسلامية في مجال طب الأطفال؟ وما أبرز تلك الإسهامات؟
في البداية يجب التأكيد أن الحديث عن إسهامات الحضارة الإسلامية في المجالات العلمية والمعرفية المختلفة، ليس حديثًا للتسلية أو لشغل الوقت أو حتى لتبرير حالة التراجع الحضاري التي يعاني منها المسلمون في القرون الأخيرة، ولكن الحديث يتغيا التذكير بالذات الحضارية الفاعلة التي شهدها تاريخ الإسلام، والتي أسهمت في رفد الحضارة الإنسانية بالكثير من العلوم والمعارف، ولم تبخل على الإنسانية بعلمها، كما أنها لم تستخدم تلك العلوم لإخضاع الناس وإذلالهم والتسلط عليهم.
ومن هنا، فنحن شركاء في بناء الحضارة الإنسانية التي تداول عليها أمم وشعوب مختلفة، وكان المسلمون هم أكثرهم رحمة وأوفرهم عطاء، وأعمقهم تأثيرًا لأنهم نظروا إلى الإنسان وفق رؤية كلية تراعي جانب الروح والجسد، كما أن قضية استخلاف الإنسان في هذه الأرض كانت مركزية في عطائهم الحضاري.
أما سؤالكم عن إسهامات الحضارة الإسلامية في طب الأطفال، فنشير إلى أن الإسهام كان كبيرًا ونوعيًّا وممتدًا تاريخيًّا، وكذلك امتد على خريطة البلدان الإسلامية من العراق إلى مصر والشام وبلاد المغرب والأندلس.
وهذا الإسهام في مجال طب الأطفال، امتد منذ ما قبل ميلاد الأطفال مرورًا بمرحلة الولادة والرضاعة والفطام، والأمراض وطرق التشخيص والعلاج، وعوامل الوقاية وحفظ الصحة والتوازن في النمو، وكذلك الصحة النفسية والعقلية.
فنجد أن الحضارة الإسلامية اهتمت بطب الأجنة، لاعتبارات فقهية تتعلق بالإرث والدية وعدة المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، ودوافع طبية أخرى تتعلق بسلامة الجنين وحفظ صحته ونموه أثناء الحمل، كذلك الفارق بين أجنة البشر وأجنة الحيوانات.
* وأول من صنف في طب الأطفال "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" (ت: 313هـ=925م) صنّف كتابًا بعنوان "رسالة في أمراض الأطفال وعنايتهم"، وتسمى "تدبير الصبيان"، وهي أول كتاب في طب الأطفال، وقد شرح فيه الرازي عددًا من أمراض الرضع والأطفال وعلاجاتها، وبلغت فصول الكتاب (24) فصلاّ، وقد تُرجم إلى اللاتينية والألمانية والإيطالية والإنجليزية؛ لذلك يُعرف "الرازي" بأنه "أبو طب الأطفال"، كما كان الرازي رائدًا في مجال جراحة أعصاب للأطفال.
وفي الغرب نجد أن أول مؤلف مطبوع في طب الأطفال كان سنة (1472م) واعتمد فيه على ما كتبه "الرازي" في طب الأطفال، وتشير الدراسات إلى أن جميع كتب طب الأطفال التي ظهرت في أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي كانت على غرار النسخة اللاتينية من كتاب الرازي في طب الأطفال.
ومن أشهر الأطباء في الحضارة الإسلامية الذين اهتموا بطب الأطفال:
* "ابن الجزار"، وهو طبيب تونسي واسمه "أبو جعفر أحمد بن إبراهيم أبي خالد القيرواني"، وقد اهتم بطب الأطفال وصنّف كتابًا بعنوان (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، حيث بقي لفترة طويلة من المراجع الأصيلة والأساسية في علاج أمراض الأطفال.
ويتكون الكتاب من اثنين وعشرين بابًا، يبحث في تدبير شئون المَوْلُودِين في حالة الصحة والمرض، وفي الأمراض التي تصيب الأطفال بحسب سنهم، حتى إنه تحدث عن الآلام التي تصيب الأطفال في مرحلة خروج الأسنان.
وهذا الكتاب -كما ذكر عدد من مؤرخي العلوم الطبية- يحتوي على معارف علمية تتَّفق كثيرًا مع طب الأطفال المعاصر
* "يوحنا بن ماسويه" (المتوفى: 243هـ=857م) والذي خص الجنين برسالة اسمها "الجنين وكونه في الرحم"، وهي رسالة حققها الدكتور "محمود الحاج قاسم"، ونُشرت في مجلة المورد العراقية، وحسب محقق الرسالة فإنها أول مؤلف مستقل في علم الأجنة باللغة العربية، ورغم أنه اعتمد فيها على ما كتبه "أبقراط" و"جالينوس" وكبار أطباء اليونان، فإن أهمية الرسالة أنها احتفظت بكيفية تفكير الأطباء القدماء في الأجنة.
* "حنين بن إسحاق العبادي" (المتوفى 264هـ=879م) وله رسالة بعنوان "المولودين لثمانية أشهر".
* "عريب بن سعد القرطبي" (ت:369هـ=980م) وله رسالة بعنوان "خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين"، ويعد واحدًا من أوائل الأبحاث النفيسة، فقد ضم علمًا غزيرًا مما يدل على عمق في التفكير وأصالة في صناعة الطب، ويتكون من (15) بابًا، وهو أول كتاب عربي في علم الولادة.
* "أحمد بن محمد بن يحيى البلدي" (المتوفى: 260هـ) فكان مؤلفه "تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم"، والذي حققه الدكتور "محمود الحاج قاسم محمد"، وأصدره عام 1980م في (330) صفحة، ذا أهمية كبيرة في طب الأطفال، فقد تعرض فيه لكثير مما يخص صحة الطفل حتى نومه واستحمامه، ومنهج تربيته في السنوات السبع الأولى من طفولته، شارحًا العلاقة بين الحالة النفسية والأمراض، ومسألة الاعتدال في تلبية رغبات الطفل.
* ابن القف الكركي، وهو "أمين الدولة أبو الفرج موفق الدين بن يعقوب بن إسحق بن القف الكركي" المتوفى (685هـ=1236م)، وهو طبيب نصراني، وهو أول من ابتكر طريقة لجراحة طهور الأطفال لم يسبقه إليها أحد، وهو صاحب كتاب "العمدة في الجراحة".
وأخيرًا وليس آخرًا...
فهؤلاء الأطباء، وتلك الجهود والابتكارات، ليست هي كل ما قدمته الحضارة الإسلامية في مجال طب ألأطفال، فهناك ما كتبه "ابن سينا" وغيره، وهو ما يؤكد أن الحضارة الإسلامية كانت شريكًا رئيسيًّا في الحضارة الإنسانية على هذا الكوكب.