الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
30 - رقم الاستشارة : 1411
24/03/2025
ما العلاقة بين المادية وتراجع قيمة التراحم هل المادية تجفف ينابيع الرحمة في النفوس وهل الشرائع الدينية كالزكاة والصدقات من تجليات الرحمة التي تناقض المادية
يذكر الفيلسوف المغربي الدكتور "طه عبد الرحمن" أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الأخلاق، قبل العقل.
والرحمة والتراحم من أعلى الأخلاق الإنسانية، بل إن الرحمة سلوك قد يتقاطع فيه الإنسان مع الحيوان؛ فغالبية الحيوان يرحم أبناءه، ويحنو عليهم ويدافع عنهم، فهي رحمة فطرية، أما الإنسان فرحمته فطرية ومكتسبة، وتكون عميقة إذا كانت ذات جذر ديني بعيدًا عن النفعية والربحية.
أما سؤالكم عن حضور قيمة التراحم في المجتمعات المادية، فقد يكون هذا السؤال هو سؤال إنساني بالدرجة الأولى، حيث إن انتشار قيم المادية، التي تُعلي من قيمة الربحية والاستهلاكية، في أغلب المجتمعات العالمية، جعل غياب التراحم قد يكون مشكلة إنسانية عامة.
في دراسة ميدانية مطولة نشرت عام 2023م، بعنوان "تأثيرات المادية على السلوكيات الاجتماعية والعدوانية لدى المراهقين" أجريت في الصين، خلصت إلى مجموعة من الاستنتاجات، تصلح للنظر من خلالها إلى ما يحدث في كثير من المجتمعات العالمية، عرفت الدراسة المادية بأنها "الأهداف والقيم التي تركز على الثروة والممتلكات والصورة والمكانة"، وهو ما يعني أن تحقيق الفرد لأهدافه المادية قد يتعارض مع أهداف الآخرين ومصالحهم، ويؤثر عليهم بطريقة سلبية.
وأشارت الدراسة إلى أن الأدلة النظرية والتجريبية تؤكد أن القيم المادية التي توجه السلوك الفردي كقيمة، تلعب دورًا مدمرًا في التطور الإيجابي للمراهقين، وأن المادية لها علاقة بانخفاض السلوك الاجتماعي تجاه الغرباء والأصدقاء، وتعلل الدراسة ذلك بأن المنظور المادي هو لا إنساني؛ فالماديون يقدرون الممتلكات المادية على الروابط والعلاقات الإنسانية، وهذا يجعل الإنسان المادي ينظر للآخرين كأنهم أشياء وليسوا بشرًا، ومعنى هذا أن الشخص المادي يجرد الآخرين من إنسانيتهم، وعندما يفعل ذلك تغيب نظرة الرحمة عن سلوكه وأفعاله تجاه الآخرين.
وفي دراسة أخرى نشرت عام 2018م، أشارت إلى أن الأشخاص الماديين يكونون أقل تعاطفا مع أنفسهم، وأن ذلك يسبب تعاستهم حتى مع امتلاكهم للكثير من الأشياء المادية، وتحدثت الدراسة عما أسمته بـ"الأنـــا الهادئة" التي تتمتع بالرضا عن الذات وتتمتع بوعي إنساني ذاتي، فهذه "الأنـــا الهادئة" تكون أقل تكالبًا على الأشياء وأقل ميلاً للتنافسية الشرسة وأقل تركيزًا على الذات، وهو ما يسمح بسلوك تعاطفي وتراحمي تجاه الآخرين.
والحقيقة أن نمط الحياة السريع، والاقتصاد التنافسي، واقتران السعادة بالاستهلاك واللذة، عمّق الفردية بصورتها القاسية، حتى أصبحت الرحمة التي تبُذل لذاتها مجالاً للتعجب، بل عرضة للسخرية، فتعرضت الرحمة لإقصاء ممنهج من الحياة الحديثة، حتى الابتسامات وملامح التعاطف والتراحم أخذت في التلاشي، لاقتران الرحمة بالمنفعة .
وقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام دورًا في تغذية الشعور الإنساني بالمادية، من خلال ربط السعادة بالمال، وخلق أوهام بأن السعادة يمكن أن تشترى، هذه الفكرة خلقت هوسًا بالاستهلاك، وصرفت الإنسان عن التفتيش في ذاته عن مكامن الخير والرحمة.
وقد اهتم الفيلسوف البولندي "زيجمونت باومان" بنقد التأثيرات المادية الطاغية للحداثة في كثير من كتبه، فتحدث عن "الأرواح المهدرة" للمنبوذين والمهاجرين، التي غابت الرحمة في التعامل معهم من المجتمعات الغنية الموفورة الثروة، حتى إنه أطلق على هؤلاء مصطلح "النفايات البشرية" بعدما انتزعت عنهم إنسانيتهم بلا رحمة؛ فالحرمان يظلل بأجنحته السوداء على كثير من المجتمعات، وينهش في الجميع، في المقابل هناك بذخ مخيف يصل إلى رمي آلاف الأطنان من القمح في المحيط للمحافظة على أسعاره المرتفعة.
المجتمعات الحديثة أخذت تذوق الآثار الجانبية لغياب التراحم، بعدما تفشت القسوة، وأصبحت شعارًا ومنهج حياة؛ ففي دراسة استمرت 17 عامًا لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية، وجد الباحثون أن إعطاء المزيد من الحب والرحمة، كان سببًا في تحسن هؤلاء المرضى، فالرحمة هي جوهر الطب والتمريض.
يذكر بعض الباحثين أن "التراحم ضرورة إنسانية، وبغيابه ستغيب بطولات وأعمال خيرية عظيمة في تاريخ الإنسان، والأبحاث التجريبية تثبت أهمية التراحم، خاصة للمرضى.