Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 137
  • رقم الاستشارة : 1195
04/03/2025

نسمع بعض الدعاة يقلل من أهمية العقل ومكانته في الحياة الإسلامية.. فهل الفكر الإسلامي لم يعط العقل حظه من الاهتمام؟

الإجابة 04/03/2025

فعلا.. نجد قليلاً من الدعاة والوعاظ يهاجم العقل في بعض خطاباته ومواعظه، ربما لقلة إدراكهم بأهمية العقل في الرؤية الإسلامية، أو كنقد لتجاوز البعض في الإيمان بالعقل تجاوزًا يصل لمرتبة التقديس.

 

وهذا ما يطرح السؤال القديم المتجدد، عن مكانة العقل في الرؤية الإسلامية، وهل اتخذ الفكر الإسلامي موقفًا معاديًا للعقل أو حتى مقللاً من أهميته وقيمته في منظومته المعرفية والفلسفية، أم أن الفكر الإسلامي وضع العقل في مكانه الصحيح كأداة للإدراك والفهم وليس كجوهر مستقل؟

 

للعقل مكان رفيع

 

العقل في الرؤية الإسلامية له مكانته العالية؛ لذا تنوعت مسمياته للدلالة على أهميته، فمعناه في اللغة هو المنع؛ لأنه يمنع النفس عما تهواه، يقول "ابن السمعاني" -وهو من فقهاء القرن الخامس الهجري- عن العقل: "كان بعض الأئمة يسميه أم العلوم" فهو أصل في فهم العلم وإدراكه؛ لذا قيل "العقل أصل لكل علم"، وقال أبو الحسن الأشعري "العقل هو العلم".

 

وقد ترددت في الفلسفة الإسلامية مقولة "ما عُــرف الله إلا بالعقل ولا أطيع إلا بالعلم".. يقول الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة": "أحال الله من يشك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل، فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها. فالعقل قائد والدين مدد، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيًا، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرًا، واجتماعهما –كما قال الله تعالى- (نور على نور)".

 

ومما كتبه "أبو الفرج ابن الجوزي في  كتابه "صيد الخاطر" في أهمية العقل، والقيود التي تمنعه من أداء دوره: "مدار الأمر كله على العقل، فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل، وثمرة العقل فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر.. ومن فهم المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.. وإني رأيت كثيرًا من الناس لا يعملون على دليل، بل كيف اتفق، وربما كان دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون".

 

وقد ورد التعبير بالفكر والتفكر عن العقل في القرآن الكريم في ثمانية عشر موضعًا، أما الآيات القرآنية التي تتحدث صراحة وباللفظ عن العقل ومترادفاته وهي التي بلغت مائتين وسبعًا وستين آية؛ لذا فمقام العقل  والعقلانية حاضر في القرآن الكريم، وهناك الكثير من الأحاديث النبوية التي تؤكد قيمة العقل.

 

أما الحديث عن أهمية العقل ومكانته في الفكر الإسلامي، فهناك مئات الأقوال والاستشهادات التي يمكن الاستناد إليها في هذا المجال، فنجد شيخ المعتزلة أبو علي الجبائي المتوفى (304هـ=916م)، يقول: "إن الواجب الأول على الإنسان هو النظر" يعني الشك، أما الجاحظ فيقول: "العقل هو الحجة"، أما حجة الإسلام الإمام الغزالي المتوفى (505هـ=1111م) في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" فيقول: "إن مثال العقل: البصر السليم عن الآفات والإيذاء، ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغني بأحدهما عن الآخر، في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل، مكتفيًا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور".

 

ونجد الإمام القرافي أحمد بن إدريس المتوفى (684هـ=1285م) يقول: "والقاعدة المعلومة أن الشرع لا يرد بخلاف العقل، بل جميع واردات الشرع يجب انحصارها فيما يجوزه العقل وجودًا وعدمًا".. أما "ابن تيمية" المتوفى (728هـ=1328م) في كتابه "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" فيقول: "إن ما عرف بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه منقول صحيح قط"، ثم يقول: "ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول؛ بل يخبرون بمجازات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته".

 

أما الإمام محمد عبده المتوفى (1323هـ=1905م) فيقول: "لقد تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس، على لسان نبي مرسل بتصريح لا يقبل التأويل"، ويقول: "إن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين".

 

وقد كتب الدكتور محمد عمارة في كتابًا مهمًّا عن "مكانة العقل في الإسلام" أتى فيه بحشد من المقولات تكشف عن المكانة الكبيرة التي يحتلها العقل في الرؤية الإسلامية، ومما ذكره على لسان المصلح جمال الدين الأفغاني: "إن العقل مشرق الإيمان، فمن تحول عنه فقد دابر الإيمان" ثم يقول: "وسعادة الأمم لا تتم إلا بصفاء العقول من كدرات الخرافات وصدأ الأوهام، فإن عقيدة وهمية لو تدنس بها العقل لقامت حجابًا كثيفًا يحول بينه وبين الواقع".

 

ومن الكتب المهمة التي تكشف مكانة العقل في الفكر الإسلامي، كتاب "التفكير فريضة إسلامية" للأديب عباس محمود العقاد، والكتاب مهم من ناحيتين:

 

الأولى: الأفكار والعلوم والمعارف التي تشكل العقل.

 

الثانية: ماهية  العلاقة بين تلك العلوم والمعارف، وتاريخ العلاقة بينهما وأسباب الشوائب التي عكرت صفو العلاقة في بعض الفترات التاريخية.

 

وأكد العقاد في كتابه رفض الإسلام للمعوقات التي تمنع العقل من أداء وظيفته، وكان من وجهة نظره أن تقييد العقل بقيود دينية تشوش وظيفته هي من أهم الأغلال التي سعى الإسلام إلى كسرها وتحطيمها، ومنها الكهانة التي تخلق سلطانًا دينيًّا على العقل، فالإسلام رفض الكهانة وحاربها حتى يخلق مساحة تحرر للعقل من السلطان الزائف للدين، وحتى لا يهاب العقل هياكل القداسة المصطنعة، يقول العقاد: "لا هيكل في الإسلام ولا كهانة، حيث لا هيكل.. فكل أرض مسجد... ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب –بداهة- إلى غير الإنسان العاقل حرًا طليقًا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم".

 

ووضع العقاد قاعدة لفهم مكانة العقل في الرؤية الإسلامية، تقول: "حينما يكون العمل بالعقل أمرًا من أوامر الخالق يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله مرضاة لمخلوق مثله، أو خوفًا منه".

 

ومن هنا فإن للعقل مكانه المعتبر في الرؤية الإسلامية، وهو ما يفرض أن تقدم المنابر الدعوية ما يحترم العقل، ويبرز مكانته.

الرابط المختصر :