الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
31 - رقم الاستشارة : 1802
30/04/2025
تجربة عودة انطونيو فلو إلى الإعتراف بوجود إله الكون بعد خمسين عاما من الإلحاد تجربة مهمة في فهم هشاشة منطق الالحاد.. هل يمكن إلقاء الضوء على تجربة انطونيو فلو ودلالاتها؟
إن تجربة تراجع الفيلسوف البريطاني الراحل "أنتوني فلو" (فبراير 1923- أبريل 2010م) عن إلحاده عام (2004م) بعد خمسين عامًا قضاها ملحدًا، ذات دلالات مهمة، في مقدمتها هشاشة المنطق الإلحادي، وزيف إدعاءاته العلمية.
وقد أحدث ذلك التراجع هزة عنيفة في أوساط الملحدين؛ لأن الرجل نقض الأسس الواهية التي يقوم عليها الإلحاد، وكشف زيفها، وبرهن أن لهذا الكون إلهًا، وأن الكون ليس وليد الصدفة.
ولكــن قبل عرض تجربة "فلو" من المهم إدراك أن القرآن ذكر أن الكثير من المشركين يعترفون بوجود الله، والقليل منهم من ينكر هذا الوجود، يقول تعالي في سورة "الزمر" الآية "38": ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ﴾، يقول الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب": إن "وجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا فرق بينهم"، وما دام وجود الخالق سبحانه تدركه الفطرة، يقول الفيلسوف "محيي الدين ابن عربي":" إن العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته"، يتشابه هذا القول مع مقولة عالم النفس الأمريكي "إريك فروم": أنه "لا يوجد إنسان بلا مقدس".
أما "فيرنر هايزنبيرغ" عالم الفيزياء الألماني الحائز على جائزة نوبل عام 1932م، فكان يقول: "إن أول جرعة من كأس العلوم الطبيعية سوف تحوّلك إلى ملحد، ولكن في قاع الكأس، ستجد الله في انتظارك"، ويبدو أن هذا ما حدث مع "فلو"؛ ففي نهاية عمره، وقبل موته بست سنوات، اعترف بوجود الخالق سبحانه وتعالى، وكان العلم هو سبيله لذلك الاعتراف المتأخر.
كانت صدمة الإلحاد كبيرة عام (2004م) مع تراجع "فلو" عن إلحاده بعد نصف قرن، فقد كان الملحدون يروجون أن الإلحاد هو سبيل العقلانيين الذين يحترمون العلم، وأن الملحدين لا يقبلون شيئًا إلا إذا قام الدليل عليه، وأن الإيمان هو سبيل ضعاف العقول، وقليلي البضاعة في الرأي، والذين لا يمتلكون منطقًا، وأن الإيمان هو ميدان السذج!!
لــــكن تراجع "فلو" هدم تلك المقولات وانتزعها من جذورها؛ فالرجل من أبرز مثقفي القرن العشرين، وهو باحث وفيلسوف وله أكثر من ثلاثين كتابًا، وله حجج في الإلحاد حيرت رجال اللاهوت في الكنيسة.
منذ العام 2001م، وسؤال المصير يشغل ذهن "فلو"، ويبدو أن نشأته مع أب قس ترك رواسب من الإيمان في نفسه، وكان سؤاله عن الوعي بعد الموت هل يستمر أم ينتهي ويصير الإنسان إلى العدم، يشغله، خاصة أن الإلحاد لن يستطع أن يقدم له إجابة.
ثم جاء التحول الثاني عندما قدم مراجعة في إحدى المجلات العلمية لكتاب "الصندوق الأسود لداروين" لمؤلفه عالم الكيمياء الأمريكي "مايكل بيهي"، حيث كتب "بيهي" أن للكون "مصممًا" عظيمًا، وأن سمات الكائنات، مثل العيون" خُلقت بشكل معقد للغاية، وبشكل يستحيل اختزاله وفق مقولات نظرية التطور لداروين.
رأى "فلو" فيما كتبه "بيهي" إقناعًا كبيرًا وقال إن "ذلك مقنع بشكل لا مفر منه" وكأن تلك العبارة تستبطن في حقيقتها، أن الأدلة على وجود خالق للكون لم يعد أمام "فلو" إلا الاستسلام لها، وأكد صراحة أنه مع تقبّله الكامل لنظرية داروين، إلا أنه لم يستطع أن يتصور كيف ظهرت أول حياة ذاتية التكاثر على الأرض لتبدأ عملية التطور برمتها.
لم يعد أمام "فلو" إلا الإعلان عن مغادرته لمستنقع الإلحاد الآسن، وقد سعى بعض كبار الملحدين مثل "ريتشارد دوكينز" إلى الحيلولة دون نشر تلك المراجعة لكن باءت محاولته بالفشل.
وفي العام 2004م أعلن "فلو" تراجعه عن إلحاده، وأصدر كتابه بعنوان "هناك إلـــه"، سرد فيه تجربته مع الإلحاد، وكان العلم مدخله للاعتراف بوجود إله، يقول "فلو": "أعتقد الآن بوجود إله... أعتقد الآن أن الأدلة تشير إلى ذكاء خلاق، ويعود ذلك بشكل شبه كامل إلى بحوث الحمض النووي، أعتقد أن ما أظهرته مادة الحمض النووي من التعقيد المذهل للترتيب لإنتاج الحياة، يؤكد أن الذكاء لا بد أن يكون قد شارك في جعل هذه العناصر المتنوعة للغاية تعمل معًا".
وقد تناول "فلو" ثلاثة أسباب وقفت وراء تراجعه عن إلحاده، وهي:
* أن الطبيعة تخضع لقوانين عقلانية ومنظمة.
* أن البشر كائنات منظمة بذكاء ومدفوعة بهدف.
* وجود الطبيعة ذاتها أو الكون، يثبت وجود الإله ووجود خالق لهذا الكون، وقال: "الكون وُجد بفضل ذكاء لا متناه".
وأوضح أن أي دراسة منفتحة للاكتشافات العلمية الحديثة لا يمكن أن تشير إلا إلى اتجاه واحد، وهو: أن المادة وحدها ليست كل شيء، وأن ذكاءً أسمى لا بد أن يُوجه ما نلاحظه في الطبيعة.