Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 119
  • رقم الاستشارة : 1580
10/04/2025

السلام عليكم، يتحدث البعض عن استراتيجية المسافة النفسية عند التفكير في مسألة ما أو اتخاذ القرار .. فما المقصود بتلك الاستراتيجية؟

الإجابة 10/04/2025

تطور العلوم الحديثة والتداخل بينها، أوجد مساحات جديدة من المعارف البينية والاهتمامات والتداخلات، فظهرت معارف ومفاهيم ومصطلحات جديدة، منها إستراتيجية المسافة النفسية أو التباعد النفسي (Psychological Distancing)، وهي تعني أخذ الشخص مسافة نفسية بينه وبين القضية التي يفكر فيها أو يناقشها، مما يتيح له أن يتجرد -إلى حد كبير- في تقييم القضية أو أخذ القرار بشأنها.

 

الإنسان عندما يأخذ أي قرار أو موقف في حاضره، لا شك أن ماضيه وذكرياته وخلفياته الثقافية والاجتماعية تكون حاضرة، كذلك فإن توقعاته في المستقبل تكون حاضرة، وهذا ما يجعل قرار الشخص أو موقفه خاضعًا لعوامل أخرى ذات تأثير كبير في تلك اللحظة.. وهنا تأتي إستراتيجية المسافة النفسية لتمنح الشخص قدرًا من التحرر والتجرد حتى يأتي قراره أقرب للحقيقة والحق والمصلحة.

 

يشير علماء النفس إلى أنه عندما تكون المسافة النفسية كبيرة، نميل إلى التفكير بطريقة أكثر تجريدًا، مُركزين على الصورة العامة، وجاذبية خيارات مُعينة، وسبب رغبتنا فيها، وفي المقابل، عندما تكون المسافة النفسية صغيرة، فالتركيز يكون على التفاصيل وإمكانية التنفيذ، والخيارات القريبة وكيفية استخدامها.

 

إستراتيجية المسافة النفسية ذات أهمية في العلاقات بين المكونات الدينية والعرقية والاجتماعية والتفاوض والتسويق، فوجودها يتيح قدرًا من التواصل الجيد بين البشر؛ لأنها تمنح قدرًا من التحرر من قيود الماضي والتاريخ والأحكام المسبقة بشأن الآخر المختلف، مما يقيم العلاقة على أسس أفضل وأقرب للحق والمصلحة.

 

ولتلك الإستراتيجية تأثيرها في مجال الدراسات النفسية في التسويق، فقد أظهرت دراسات أن البائعين يميلون بالفعل إلى التفكير في الشيء من حيث قيمته للمشتري (مما يشير وجود مسافة نفسية بين البائع وهذا الشيء)، بينما يميل المشترون إلى التفكير في الشيء من حيث قيمته لأنفسهم (مما يشير إلى تأثير العاطفة والحاجة على المشتري)، وحجم هذه المشاعر وحضور تلك الضغوط أو غيابها يؤثر بشكل مباشر في قرار البيع والشراء والمساومة.

 

يشير علماء النفس إلى أن إستراتجية المسافة النفسية تساعد على إدارة المشاعر من خلال الابتعاد عن ردود الفعل الفورية، مما يتيح منظورًا أكثر وضوحًا واتخاذ قرارات أكثر وضوحًا.

 

أما الوصول إليها فيكون من خلال الحوار مع النفس، وكأن هناك شخصًا آخر يتحدث في أعماقك ويقدم لك النصح، وفي الرؤية الدينية هذا الشخص الثالث هو صوت الضمير والفطرة السلمية الذي يحذر من الظلم والجور والاعتداء، ولهذا كان يقال إن "الضمير هو صوت الله في الإنسان".

 

والحقيقة أن الغضب والشهوة والعاطفة من حب وكراهية والروابط الاجتماعية والدينية والمكانة الاقتصادية واللون وغيرها يحجب رؤية الحقيقة والتمسك بالحق، ويجعل الإنسان يميل ويحيد في قراراته ومواقفه، لتأتي قراراته مجافية للحق والصواب.

 

ومن هنا كلما زادت المسافة النفسية بين الشخص وعواطفه وغضبه وشهواته ورغباته وذاكرته وبين القضية التي ينظرها جاءت مواقفه أقرب للعدل والمصلحة، وكما جاء في الأثر " حُبُّكَ الشيءَ يُعْمي ويُصِمّ"، وكما يقول الإمام ابن تيمية في كتابه "قاعدة المحبة": "والإنسان مجبول على محبة نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه فلا يرى إلا مساوئه، وهذا الجهل غالبه مقرون بالهوى والظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وتقليدهم في التصديق والتكذيب والحب والبغض والموالاة والمعاداة".

 

ولعل تلك الإستراتيجية أشار إليها القرآن الكريم، في قوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الآية 8). يقول الإمام الزمخشري في تفسيره "الكشاف" حول الآية: "لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مُثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك". يقول عطاء بن أبي رباح في الآية: "لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك".

 

أما تفسير المنار للشيخ رشيد رضا فيقول: "لا عذر لمؤمن في ترك العدل وإيثاره على الجور والمحاباة، وجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس، وفوق المحبّة والعداوة مهما كان سببهما. فلا يتوهمن متوهم إنه يجوز ترك العدل في الشهادة للكافر، أو الحكم له بحقه على المؤمن".

الرابط المختصر :