22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 48
  • رقم الاستشارة : 909
06/02/2025

هناك ظاهرة يجري الحديث عنها هي الرغبة في عدم الإنجاب.. فهل هذه الظاهرة توجه فلسفي فكري أم حالة مزاجية عابرة ليس لها امتداد فلسفي؟

الإجابة 06/02/2025

عدم الإنجاب أو "اللاإنجابية" رؤية فلسفية تنزع إلى التشاؤم، وتتخذ موقفًا كارهًا ومعاديًا للحياة، وهي نزعة وأفكار برزت في الفسلفية اليونانية القديمة، ثم امتدت عبر فلسفات متعددة كالبوذية، والفلسفة التشاؤمية في القرن التاسع عشر، ثم في الفلسفة الحديثة، حيث ظهر في مطلع الألفية الثانية ما يمكن تسميته بـ"ثورة عدم الإنجاب".

 

ومع تزايد الأشخاص والتوجهات المنادية بعدم الإنجاب مطلقًا، استند موقفهم إلى آراء فلسفية تشاؤمية حاولت أن تتستر بالأخلاق في عدم جلب أطفال يتلقون التعاسة في الحياة الممتلئة بالآلام والمصاعب.

 

كل عام يولد على هذا الكوكب ما يقرب من (140) مليون إنسان، أي يأتي كل ثانية أربعة من البشر إلى الحياة، يقابلهم حوالي (56.2) مليون شخص يغادرون الحياة بالموت بأسبابه المختلفة، وهو ما يعني أن نسبة القادمين للحياة إلى المغادرين تقريبا ثلاثة أضعاف؛ فالرغبة في الحياة واستكمالها هي الروح المسيطرة على البشرية.

 

أما نزعة التشاؤم واللاإنجابية لا تعدو أن تكون دعوة هامشية غير مؤثرة، لكن تكمن خطورتها في أن التطورات العلمية في المجال الطبي منحت الإنسان القدرة على تنفيذ فلسفته التشاؤمية في عدم الإنجاب من خلال الوسائل الحديثة، مثل نزع الأرحام، أو التعقيم.

 

ومن ناحية أخرى فإن تنامي الفردانية الباحثة عن اللذة والمتعة دون الرغبة في تحمل الآثار المترتبة على ذلك، قد جعل خيار عدم الإنجاب خيارًا مقبولاً عند قطاعات غير قليلة من الرجال والنساء، خاصة مع تزايد حالات العقوق وانتشار دور المسنين، كذلك فإن الضعف الديني والأخلاقي بفعل الحداثة والتطورات التكنولوجية خاصة في المجال الرقمي، قد أضعف الحافز الأخلاقي والديني في الإنجاب والتكاثر وإعمار الأرض.

 

أما الجانب الفسلفي الذي تستند إليه اللاإنجابية فهو قديم، واللاإنجابية ذات ارتباط وثيق بالتشاؤم والتفكير الرافض للوجود، ويمكن رصد بعض الفلاسفة والكتاب اليونانيين القدماء الذي تحدثوا عن تلك الرؤية بقولهم: "إن عدم الإنجاب قد يكون أعظم نعمة على الإطلاق"، كذلك تشجع رؤى في البوذية على عدم الإنجاب على اعتبار أن ولادة الأطفال تأتي بأناس جدد إلى واقع المعاناة، ونصت بعض تعاليم "بوذا" قبل أربعمائة عام قبل الميلاد، على أن: "الرجل يُحضر الأطفال مسّببا لهم وله التقدم في السن والشيخوخة والموت، فلو فكّر لوهلة وأدرك حجم المُعاناة التّي سيزيدها بتصرفه لكان قد امتنع عن الإنجاب وبذلك يوقف دورة الشيخوخة والموت".

 

ونجد فيلسوف التشاؤم "شوبنهاور" يربط بين فلسفته التشاؤمية والدعوة لعدم الإنجاب ويقول: "لو أن الإنجاب جاء نتيجة لفعل عقلاني خالص، فهل كان الجنس البشري ليظل موجودًا؟ ألا يفضل الإنسان أن يتعاطف مع الجيل القادم إلى الحد الذي يخفف عنه عبء الوجود، أو على الأقل لا يفرض هذا العبء عليه بدم بارد؟".

 

ورأت تلك الفلسفة المتشائمة أن البشر في المستقبل سيضعون نهاية لمعاناتهم بوضع نهاية للوجود البشري من خلال عدم الإنجاب، مثل الأديب الفرنسي في القرن التاسع عشر "جوستاف فلوبير" الذي قال: "إن فكرة جلب شخص ما إلى العالم تملؤني بالرعب. سألعن نفسي لو كنت أبًا".

 

وهناك بعض الكتب التي أثارت جدلا مثل كتاب "من الأفضل ألا تكون موجودًا أبدًا: الضرر الناتج عن المجيء إلى الوجود" للكاتب الجنوب أفريقي "ديفيد بيناتار" الصادر عام 2006 الذي سعى لوضع اللاإنجابية ضمن إطار فلسفي أوسع، يرى أن الوجود يمثل مشكلة فلسفية عميقة.

 

ويسوق مروجو عدم الإنجاب مجموعة من الحجج لتبرير موقفهم في اللاإنجابية، من ذلك: أن القدوم للوجود خطر وضرر لا يجب تكراره، وأن الإنجاب مشكلة ومعاناة، وأن المعاناة تفوق اللذة التي يتحصل عليها الإنسان، وأطلقوا على تلك حجة "عدم التناسق" بين الألم واللذة.

 

لكن الأغرب في اللاإنجابية أنها حاولت إضفاء نزعة خيرية على رؤيتها وموقفها في عدم الإنجاب استنادًا إلى الأضرار التي يتعرض لها الإنسان في حياته، وأن الحل الذي تطرحه هو ألا يأتي الإنسان من البداية، وبذلك تختفي المعاناة.