23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 236
  • رقم الاستشارة : 682
13/01/2025

هل أثرت الآلات على مكانة الإنسان في الحياة وهل للآلات الحديثة تأثيرات فكرية يمكن رصدها وهل استحواذ الآلات على مجالات الحياة أضعف دور الإنسان؟

الإجابة 13/01/2025

يحدد الروائي الأمريكي "جيفري يوجينيدس" العام 1913 بداية احتلال الآلة لدور ومكانة الإنسان في الإنتاج والعمل؛ ففي هذا العام بالتحديد ابتكر الأمريكي "هنري فورد" أول خط متحرك لإنتاج وتجميع السيارات، كان هذا الخط سريعًا، ولكل عامل دور صغير ومحدد ومرتبط بزمن في عملية التجميع، فانخفض وقت إنتاج السيارة الواحدة من 12 ساعة إلى ساعة و33 دقيقة، فأخذ دور العامل يتراجع في الإنتاج لصالح الآلة، وأخذت فكرة العمالة الماهرة تتلاشى بسبب الآلة، وانتقلت الفكرة من مصانع فورد لتصبح النمط العالمي السائد في الإنتاج.

هذا التحول لم يكن سهلاً ولا عابرًا، وكانت له تداعيات اقتصادية واجتماعية وفكرية؛ فكل تحول إنتاجي له تأثيراته الممتدة، والتي تعيد تشكيل المجتمعات والعلاقات الإنسانية.

هذا التأثير المتزايد للآلة كان مقلقًا منذ بداية القرن الماضي، حتى السينما العالمية في مطلع القرن اهتمت بالأمر وظهر ذلك في فيلم للممثل شارلي شابلن Modern Times الذي تم إنتاجه عام 1936، فهذا التغول للآلة على المهارات الإنسانية أخذ منحنى متزايدًا حتى على مستوى الآلة التي كان يمسكها الإنسان بيديه كالمطرقة أو الفأس، وأخذ دور المهارات الإنسانية يتراجع أمام الآلات العملاقة التي يبدو الإنسان أمامها ضئيلا وذا قدرات متواضعة للغاية، وهذا سمح للآلات أن تفرض نفسها على هذا الكوكب.

تشير التوقعات السكانية العالمية إلى أن عدد سكان العالم سوف يصل إلى نحو 8.5 مليار نسمة بحلول عام 2030، ومن ناحية أخرى يؤشر التنامي المتزايد للذكاء الاصطناعي أنه ذو تأثير كبير على العمل والوظائف عالميًّا، ومن ثم على دور الإنسان في الحياة بصفة شاملة، والتوقعات أن تتغير قوة العمل العالمية تغيرات جذرية ومرعبة بالنسبة لسوق العمل والوظائف، ومن ثم إعادة تشكيل العلاقات الإنسانية والاجتماعية بصفة شاملة وعميقة.

وأمام ذلك بدأت علوم ومعارف جديدة تظهر، مثل علم سلوك الآلة، وهو يهدف إلى دراسة الآلات الذكية التي باتت منتشرة ومعقدة ومتداخلة مع الوظائف والأدوار الإنسانية، وذات ارتباط وثيق بالإنسان، وبات البعض ينظر إلى الآلة وكأنها كائن حي، بل نظر البعض لها ككائن يتفوق في قدراته على الإنسان، وطرح آخرون سؤال مقلقًا ومفزعًا، وهو: ما الحاجة إلى الإنسان ما دامت الآلة تقوم بوظائفه وأدواره؟

نشير هنا إلى رؤية الكاتب البريطاني "جيمس برايدل" في كتابه "عصر مظلم: التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل" الذي كان صرخة إنسانية في وجه الآلة وجبروتها القادم والقائم، والتي تهدد الإنسان تهديدات وجودية، ورأى "برايدل" أن الآلة والتقنية باتت تأخذ مكان الإنسان في الحياة بكافة مستوياتها وتجلياتها، وصارت تحاصره، وتطرده من مجالاته التي اختص بها، حتى صار الاستثمار في الآلة والتقنية أكثر جذبًا من البشر، وأن المستقبل سيكون للآلة ذات التقنية العالية، التي ربما تستخدم البشر، وهو ما ينذر بمستقبل أكثر قسوة من الحاضر.

أشار "براديل" إلى فكرة قد تخفى عن البعض، وهي أن التوسع في الآلات ذات الذكاء الاصطناعي سيجعل الإنسان على المستوى النفسي والفكري مؤمنًا أن تطبيق الحوسبة قادر على حل المشكلات الإنسانية، وسمّى ذلك الاتجاه بـ"التفكير الحوسبي"، وهذا النوع من التفكير بات طاغيًا في العالم، والأخطر أن التقنية لا تعمل باستقلالية؛ فالآلة ليست كائنًا مستقلاً يعمل وفق هواه وعواطفه، ولكن يسيطر على الآلة مجموعة من الأفراد أو مؤسسة ما، وبالتالي فإن التحولات الفكرية والاجتماعية والإنسانية التي تنتجها الآلة يسيطر عليها مجموعة قليلة، وهي التي تحدد ما سيكون عليه العالم والمجتمعات.

الأمر الآخر أن الاستخدام المفرط للآلات وخاصة آلات الذكاء الاصطناعي، لا يوازيه فهم عميق، وهو ما يعني أن الآلات وتقنيتها خاضعة لنفوذ وسيطرة مجموعة معينة قد تمتلك رؤية للعالم وتسعى لخلق تغييرات كبيرة تتلاءم مع ما تراه وتعتقده.

يروج البعض إلى أن الآلات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي أصبحت تحدد مصير الإنسان، وأصبح المتحكمون في التقنية يرون البشر نقاطًا مضيئة على لوحة هم فقط القادرون فهمها وتحريكها؛ لذا غاب مفهوم الإنساني وحل مكانه مفهوم الآلة، وظهر ما يمكن تسميته "رهبة الآلة"، وشكلت هذه الرهبة أزمة وجودية للإنسان في مواجهة الآلة التي تحل مكان الإنسان في البيت وخارجه، وفي العمل والترفيه، حتى في الزواج، فظهرت الدمى التي تلعب وظيفة الزوجة.

وهنا يُطرح السؤال المزعج: ماذا أبقت الآلة للإنسان في الحاضر والمستقبل في عالم اقتصادي وسياسي ينحاز للآلة على حساب الإنسان، ويرى أن الاستثمار في الآلة أكثر نفعًا وأعظم جدوى، لكن الأخطر أن هيمنة الآلة امتدت إلى الإنسان نفسه وعقله؛ فمع كل مشكلة كبيرة أو حتى صغيرة تواجه الإنسان لا يجد إلا الآلة منقذًا له من تلك الورطة، فخيم الكسل المعرفي والبدني على الإنسان المعاصر، وضعفت قدراته عن اتخاذ قراراته المصيرية، وأصبح الإنسان يفكر قليلاً، وأكثر اعتمادية على الآلة، فضمرت الكثير من مواهبه وقدراته؟