23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكرية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 51
  • رقم الاستشارة : 889
04/02/2025

هل تحتاج عقولنا إلى التفاؤل؟ وهل التفاؤل له تأثير على أفكارنا؟ ولماذا كانت الفلسفة العدمية تناهض التفاؤل؟

الإجابة 04/02/2025

في البداية التفاؤل والتشاؤم موقف فلسفي من الحياة والوجود، قبل أن يكون حالة مزاجية أو نفسية، فالمتفائل أو المتشائم، يمتلك رؤية فلسفية ينطلق منها سلوكه ومشاعره، فإذا أردت مكافحة التشاؤم وزرع التفاؤل يجب عليك أولا أن تبدأ من التصورات والأفكار والرؤى والاعتقاد لإصلاحها وتوجيهها في المسار الذي يجب أن تسير فيه، ثم تأكد بعد ذلك أن المياه الطازجة المتدفقة من تلك التصورات المتفائلة ستدفع المياه الراكدة الآسنة المتشائمة خارج المستنقع حتى تطهره تماما من تلك الفلسفة التشاؤمية والعدمية.

 

وفي الرؤية الإسلامية كان اليأس هو شعار الكافرين القانطين، وكان الأمل والتفاؤل والرجاء هو نهج الأنبياء والمرسلين ومن مشى على خطاهم.

 

والتفاؤل في حقيقته هو رؤية للوجود، وتوجه نحو الحياة، وإيمان بأن المستقبل يحمل الخير، وأن مقادير الأمور وتصريفها بيد الخالق سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يهيمن على الأمور كلها، ولذا كان التفاؤل ذا رؤية معرفية عميقة تستشرف المستقبل وتنتظر فيه الآمال الفسيحة.

 

أما التشاؤم فذو رؤية فلسفية تعتقد أن الحياة لا تستحق أن تُعاش، وأن العدم أفضل من الوجود، وأن المعاناة تفوق المتعة، وأن السعادة نادرة في الوجود، وعابرة مثل البرق لا يمكن أن نلحظها إلا بعد أن تمضي، وبالتالي لن نستطيع تحقيقها، وأن الأقدار تحكمها يـــد غير حكيمة ولا عادلة ولا رحيمة، وأن تصرفاتها تفتقر إلى المعنى، هذه الرؤية الفلسفية للتشاؤم تُنتج الاكتئاب والانتحار وتناهض الإنجاب.

 

ومن قديم تسلل التشاؤم إلى فلسفات قديمة زعمت أن الحياة ما هي إلا معاناة، وأن السعادة لا يمكن تحقيقها، وأن العالم يحمل الشرور والمخاوف، وأن البؤس متأصل في الكون، وأن عدم وجود العالم سيكون أفضل من وجوده، وأن الحياة أسوأ من الموت.

 

وقد صاغ الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" البناء الفلسفي للتشاؤم في القرن التاسع عشر الميلادي في كتابه "العالم كإرادة وتمثيل" عام 1818م، إضافة إلى عدد من الفلاسفة الألمان، وحمل تشاؤمهم بُعدًا اعتقاديًّا هو أن مصدر التشاؤم يكمن في جوهر الوجود ذاته، فهذا الجوهر هو سبب المعضلات واليأس، وأنه لا سبيل إلى إصلاح تلك الإرادة التي ستظل تعمل وفق منطقها ولا تتأثر بأفعال الإنسان.

 

أما التفاؤل: فهو تمسك بالحياة، وإيمان بأن لها معنى وغاية، وأن العالم الخير فيه أكثر من الشر، ومن ثم فالتفاؤل ذو بُعد معرفي مرتبط بطريقة التفكير التي تدرك المشهد بصورة إجمالية، وكما يقول الشيخ "جودت سعيد": "الكون مبني على التفاؤل"، وفي كتابه "النور في القلب" يؤكد مؤلفه "روي تي بينيت" أن "أكبر جدار يجب أن تتسلقه هو الجدار الذي تبنيه في عقلك".

 

التفاؤل ضروري للصحة النفسية، ويلعب دورًا وقائيًّا في التعامل مع تقلبات الدهر وصروفه، وذو ارتباط إيجابي بالرضا عن الحياة واحترام الذات؛ فالمتفائل أكثر سعادة، ورضا عن نفسه وعن الحياة.

 

في كتابه "لماذا لا تصاب الحُمُر الوحشية بالقرحة" يؤكد البرفيسور "روبرت إم سابولسكي" أستاذ علم الأعصاب الأمريكي أن "الضغط الذي ينتجه دماغنا ينعكس سلبًا على أجسامنا، فيزيد من مستويات الكورتيزول في الجسم، ويجعل نظام القلب والأوعية الدموية يعمل بشكل سيئ، ويفسد إنتاج الأنسولين"، وهذه الحالة هي نتاج لتفكير الإنسان فيما لا يستطيع إصلاحه أو تغييره، وهي حالة تصيبه بالاجهاد النفسي والعقلي والبدني، وذلك لأن جسد الإنسان متأثر بواقعه، ويُنتج استجابات تبعًا لهذا الواقع وتقلباته؛ فالأمراض المرتبطة بالإجهاد، هي استجابات مفرطة للتوتر.

 

في حين أن المفترسات في عالم الحيوان لا تُخضع أجسادها للإجهاد إلا لدقائق قليلة، تنتهي مع تمكنها من فريستها، أو حتى حال فشلها، حيث تعود لحالتها الطبيعية، وتُخفض توترها، يقول "سابولسكي": "بالنسبة للغالبية العظمى من الوحوش على هذا الكوكب، فإن التوتر يتعلق بأزمة قصيرة المدى، وبعد ذلك إما أن تنتهي أو ينتهي، أما نحن فعندما نجلس ونقلق بشأن الأشياء المجهدة، فإننا نشغل نفس الاستجابات الفسيولوجية، غير أنها قد تكون كارثة، عند استفزازها بشكل مزمن".

 

البرفيسور الشهير "آرون بيك" يؤكد أن الاكتئاب في الأساس اضطراب في الفكر، وليس في العاطفة، حيث يميل المصابون إلى رؤية العالم بطريقة مشوهة وسلبية؛ فالمتفائلون والمتشائمون يتعاملون بشكل مختلف مع الشدائد، ومن ثم تتغير استجابتهم واستراتيجياتهم؛ فأغلب المتشائمين لا يرون في المستقبل أملاً أو إشراقًا؛ وهو ما ينعكس في استجابتهم السلوكية والجسدية، التي تميل إلى الإحباط واليأس والانسحاب، أما المتفائلون، فهم يرون في كل أزمة إمكانية لفرص جديدة.

 

وقد تناول "بيك" الأفكار السلبية التلقائية، مؤكدًا أن هناك أنواعًا من التفكير هي التي تُحدث الأزمات النفسية والعاطفية، وأن مواجهتها تكون من خلال العلاج المعرفي والسلوكي، أي تغيير الأفكار والذهنية، حيث أثبتت التجارب نجاح هذا النهج في مواجهة الكثير من الاضطرابات النفسية، واضطراب النوم والوسواس القهري واضطرب ما بعد الصدمات.