23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

هل الحكمة من فرض الجزية هو إذلال أهل الكتاب؟

الإستشارة 10/01/2025

يرى كثير من الناس أن الحكمة من فرض الجزية هو إذلال أهل الكتاب وإهانتهم، ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: ( ... حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فهل هذا صحيح؟

الإجابة 10/01/2025

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

فموضوع الجزية من الموضوعات التي أثير حولها جدل واسع، ومرجع ذلك إلى عدم فهم معناها والحكمة من تشريعها.

 

فالجزية ضريبة مالية يدفعها القادرون من أهل الذمة الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، وينعمون بحمايتها داخليًّا وخارجيًّا بدلاً عن دفع الزكاة والجهاد.

 

والمنصف يرى أنه إكرام لهم حيث يتولى المسلمون الدفاع وتأمينهم وتركهم للتفرغ للعمل، ويمكن إسقاطها إن شارك بإذن ولي الأمر في الجهاد.

 

وقيمة الجزية تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص. ويجوز للحاكم أن يسقطها، أو يخففها، إذا وجد من أهل الكتاب من يأمنهم على الدفاع عن الوطن ضد الأعداء، كما يجوز له أن يأخذها على أساس أنها صدقة أو ضريبة كما فعل عمر بن الخطاب مع بعض أهل الكتاب من جزيرة العرب.

 

وهذه الجزية أو الضريبة إذا تأملنا فيها نجدها تكريمًا لأهل الكتاب ورفعًا للحرج النفسي عنهم، وليست إهانة كما يفهم الكثير من أهل الكتاب وبعض المسلمين أيضا للأسباب التالية:.

 

أولا: الشريعة الإسلامية لا تريد أن تحرج أهل الكتاب فتفرض عليهم أن يقاتلوا في سبيل الدين الذي لا يؤمنون به، ويضحوا بأنفسهم ـ وهي أغلى ما يملكون ـ من أجل عقيدة لا يعترفون بها، كما لا تريد أن تفرض عليهم الزكاة وهي عبادة مالية واجبة على المسلم، ولا يتصور أن يتركوا في الدولة الإسلامية دون أن يسهموا في حمايتها وبنائها، وهم ينعمون بخيراتها، ويعيشون في كنفها وحمايتها.

وبالتالي لا بد من فرض هذه الضريبة سواء أكانت باسم الجزية أم غيرها فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء.

 

ثانيًا: ولو قارنا بين الواجبات المالية والبدنية الواجبة على المسلم، والواجبة على أهل الكتاب لوجدنا أن المسلم أكثر عبئًا، وأضخم مسئولية من أهل الكتاب، فالمسلم يدفع الزكاة وهي نسبة محددة من كل مال يملكه بلغ نصابًا وحال عليه الحول، وهو يجاهد في سبيل الله فيضحي بالمال والنفس، وهذا كله يوفر نوعًا من الأمان لغير المسلم كي يعمل وينتج دون أن يشعر بالخوف على نفسه أو ماله داخليًّا أو خارجيًّا.

 

ثالثًا: ليس الإسلام بدعًا في فرض هذه الضريبة، فلا يوجد إنسان يعيش في وطن ولا يسهم في بنائه، ويبذل ما في وسعه من أجل نماء هذا البلد الذي يعيش فيه.

 

رابعًا: إذا قارنا بين تعاليم التوراة التي يتعبد بها اليهود والنصارى عرفنا الفارق الشاسع بين الإسلام وغيره، فهذه التعاليم لا تجيز لأتباعها أن يُبقوا أحدًا من المسلمين على قيد الحياة، ولا يسمحوا لهم حتى بترك دينهم إلى اليهودية لأنهم من وجهة نظرهم لا يرقون إلى هذا.

 

تقول التوراة في (سفر تثنية الاشتراع) في (الإصحاح العشرين):

(وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادْعُوها للصلح أوَّلاً. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكلُّ الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الربُّ إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكلُّ ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتَّعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الربُّ إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكلِّ المدن النائية عنكم، التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا).

 

أما شعوب المنطقة التي يطلق عليها (أرض الميعاد) أي سكان أرض فلسطين، فتقول التوراة في شأنها: (أما مدن الشعوب التي يَهَبها الرب إلهكم لكم ميراثا، فلا تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَة حية، بل دمِّروها عن بكرة أبيها... كما أمركم الربُّ إلهكم، لكي لا يعلِّموكم رجاستهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الربِّ إلهكم). انظر: الكتاب المقدس (التوراة) سفر التثنية: الإصحاح العشرين (10- 18) صـ392، 393.

 

خامسًا: أما الآية القرآنية التي يُستدل بها على ضرب الذلة والمهانة على أهل الكتاب وهي قول الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) فاختلف في تفسيرها وتأويله، وإن كان بعض المفسرين فهم منها الذلة والصغار على أهل الكتاب فإن البعض الآخر فهم معنى آخر هو الخضوع لسلطان الدولة والالتزام بقوانينها، وهذا الخضوع والالتزام يشترك فيه المسلم مع غير المسلم.

 

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي - رحمه الله:

 

ومعنى (عن يد) أي عن قدرة وسعة. ومعنى (صاغرون) أي مذعنون لسلطان الإسلام، قابلون لجريان أحكامه – في الأمور غير الدينية – عليهم. بمعنى خضوعهم للنظام الإسلامي المدني والسياسي.

 

وليس معنى: (وهم صاغرون) إذلالهم، وإشعارهم بالهوان، كما قد يفهم بعضهم، بل ما فسر به الإمام الشافعي (الصغار) بإجراء حكم الإسلام عليهم، ونقل ذلك عن العلماء فقد قال: "سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلامي، وما أشبه ما قالوا بما قالوا؛ لامتناعهم من الإسلام. فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه". ينظر: فقه الجهاد 2/ 797.

 

والله تعالى أعلى وأعلم