الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
37 - رقم الاستشارة : 3490
04/12/2025
أنا أب لخمسة أطفال، فقدت واحدًا منهم بسبب العجز والمرض، وكانت تلك المحنة أكبر من أن تُحتمل.
أعمل في الحجر والطين، لكن إصابتي بالربو أجبرتني على التوقف عن العمل. ومع ذلك، لا أستطيع أن أستسلم، فأنا أجاهد كل يوم لأوفّر لأطفالي الحليب، الأدوية، ومصاريف العلاج الطبيعي.
طفلي يعاني من مفصل مخلوع ويحتاج عملية مكلفة، وطفلتي تحتاج عملية لتطويل الأوتار، والطفلتان الأخريان تعانيان من الإعاقة وتحتاجان إلى رعاية يومية.
أنا رجل مريض، لكني أحاول أن أتعافى لأواصل العطاء لهم.
أطفالي ينظرون إليّ كل يوم بعيون بريئة تنتظر مني أن أكون سندهم، وأنا لا أملك إلا أن أطرق أبواب الله بالدعاء والصبر.
سؤالي يا دكتور: هل ما نعيشه من هذه الابتلاءات المتتابعة هو غضب من الله بسبب ذنوب لا نعلمها، أم أنه ابتلاء ونصيب؟
وهل يمكن أن يكون وراءه سحر أو حسد؟
وكيف أستطيع أن أريح قلبي وأفهم الحكمة من هذا الوضع؟
مرحبًا بك أخي الكريم، ووالله لقد اهتز قلبي لكلماتك، وأحسست بغصة الألم في حلقك، وبثقل الحمل على كاهلك، وبرجفة الخوف في قلبك الأبوي الرحيم. إنك أب عظيم، ومجاهد في ميدان الحياة، وبطل يحاول أن يواصل رغم الجراح. فأشكرك على ثقتك بنا وتواصلك معنا، وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يربط على قلبك، ويشفي صدرك من الربو ومن كل ألم، وأن يجعل كل قطرة عرق سقطت منك في عملك بالحجر والطين، وكل دمعة ذرفتها على طفلك الراحل، وكل تنهيدة ألم على أطفالك المرضى، نورًا لك في الدنيا، وذخرًا لك في الآخرة. اللهم صبّ عليه الرزق صبًّا، وسخّر له ملائكة السماء وجنود الأرض، واشفِ أبناءه شفاءً لا يغادر سقمًا، وبعد...
الدنيا دار اختبار لا قرار
أخي الحبيب، اعلم أن ما أنت فيه هو «ملحمة صبر» يراك الله فيها. والدنيا بطبعها جُبلت على الكدر، ولو صفت لأحد لصفت لرسول الله ﷺ، الذي مات أبناؤه في حياته، وجاع حتى ربط الحجر على بطنه، وأوذي في جسده وعرضه. أنت الآن تسير في طريق الأنبياء، وهذا الطريق وعر، ولكن نهايته جنات النعيم.
هل هذا غضب من الله أم ابتلاء ومحبة؟
يا أخي، إن الشيطان حريص جدًّا في أوقات الضعف على أن يوسوس في أذن المؤمن: «الله يكرهك»، «الله يعاقبك»، يريد بذلك أن يقطع الحبل بين المؤمن وربه.
دعني أطمئنك بحديث يُكتب بماء الذهب، يقول النبي ﷺ: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» [رواه الترمذي].
فابتلاء الله للمؤمن علامة محبة، ليسمع صوته في الدعاء، وليطهره من الذنوب. فابتلاءاتك المتتابعة (المرض، والفقر، وفقد الولد، ومرض الأبناء) هي غربلة لذنوبك. وهي أيضًا رفع لدرجاتك. فالذهب لا يصفو إلا بالنار. إن الله يصطفيك لمنازل في الجنة لا تبلغها بصلاتك وصيامك؛ بل بصبرك على هذا الوجع.
يقول النبي ﷺ: «إن العظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [رواه الترمذي].
إذن؛ ما أنت فيه هو ابتلاء ومحبة واصطفاء، وليس غضبًا وانتقامًا، فاطرد عنك وساوس الشيطان الذي يريد تيئيسك من رحمة الله.
هل وراء ذلك سحر أو حسد؟
أخي الكريم، نحن نؤمن بأن السحر والحسد حق، وقد ذُكر في القرآن والسنة. ولكن، احذر أن تعلِّق كل مصائب الحياة على شماعة السحر والحسد، فهذا باب يدخلك في دوامة الوهم واليأس.
واعلم يا أخي أن القدر فوق السحر، فحتى لو اجتمع سحرة الإنس والجن، فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. قال تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102].
فلا تنشغل بالفاعل وتنسى المسبب. إن انشغالك بـ «مَن سحرني؟» أو «مَن حسدني؟» سيستنزف طاقتك النفسية التي تحتاجها لرعاية أطفالك.
وسواء كان ما أنت فيه ابتلاء قدريًّا محضًا، أو كان بسبب سحر أو حسد، فالعلاج واحد: (الدعاء، الصدقة ولو بالقليل، والرقية الشرعية بالقرآن).
ونصيحتي لك أن تتعامل مع ما أنت فيه على أنه قضاء وقدر، وحصِّن بيتك وأطفالك بالأذكار، ولا تفتح على نفسك باب الوساوس والبحث عمن قد يستغل حاجتك ويخدعك ويستنزفك.
كيف تريح قلبك وتفهم الحكمة؟
لكي يسكن قلبك، وتبرد نار ألمك، استحضر هذه المعاني العميقة:
1- انظر إلى طفلك الذي سبقك:
ذلك الطفل الذي فقدته، هو الآن فَرَط لك (أي سابق لك) إلى الجنة. تخيل يوم القيامة والناس في فزع، ويأتي هذا الطفل يأخذ بيدك ولا يرضى أن يدخل الجنة إلا وأنت معه.
قال رسول الله ﷺ أن الله -سبحانه- عندما يقبض ولد العبد ويحمد العبد ربه، يقول: «ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد» [رواه الترمذي]. فهل هناك أعظم من بيت في الجنة مقابل صبرك؟
2- أطفالك المعاقون هم مشاريع للجنة:
إنك لا تربي أطفالًا عاديين، أنت تخدم أهل بلاء مرفوع عنهم القلم. وخدمتهم وتوفير الدواء لهم هو جهاد عظيم. وكل لقمة تضعها في فم طفلتك المعاقة، وكل جهد للعلاج هو صدقة جارية لك. فأطفالك هم طريقك المختصر إلى الفردوس.
3- الله هو الرزَّاق وليس أنت:
أنت تقول: «أجاهد لأوفر الحليب والدواء»، أعانك الله وقواك، ولكن اعلم أنك «سبب» والله هو الرزاق ذو القوة المتين. فهوِّن على نفسك، واعلم أن الله لن يحملك فوق طاقتك.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151]. فرزقهم مكتوب معهم منذ نَفخ الروح فيهم، وسيسوقه الله إليهم، ربما عبر يديك وربما عبر أيادٍ أخرى سخرها الله لهم، فأنت تطرق الباب والله يفتح.
4- وفي أيوب العبرة:
تذكَّر نبي الله أيوب -عليه السلام- وكيف فقد ماله كله، وفقد أبناءه كلهم، ومرض في جسده سنين طوالًا حتى لم يبق فيه عضو سليم إلا قلبه ولسانه. فماذا قال؟ قال لربه وليس إلى أحد غيره: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]. فجاء الفرج: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾. فاعلم أنك في مقام أيوب إن فعلت مثله، فانتظر الفرج كما أتاه.
وختامًا أخي الحبيب، إن ما عليك فعله -عمليًّا- يتلخص في ثلاثة أمور:
1- الرضا القلبي: قل بقلبك ولسانك: «يا رب، أنا راضٍ عنك، فارضَ عني، وأعني على حمل هذه الأمانة، وتحمُّل هذا البلاء، ولا تحرمني الأجر».
2- الأخذ بالأسباب: بما أنك تعاني صحيًّا وماديًّا، فلا حرج عليك شرعًا -بل من الواجب- أن تتواصل مع الجمعيات الخيرية الموثوقة، أو أهل الخير في منطقتك للمساعدة في تكاليف العلاج والعمليات. هذا ليس تسولًا؛ بل هذا حقك وحق أطفالك في مال المسلمين.
3- الدعاء في ثلث الليل الأخير: فإن سهام الليل لا تخطئ، وقد قال نبينا ﷺ: «يَنْزِلُ رَبُّنا -تَبارَكَ وتَعالَى- كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟» [رواه البخاري].
فرَّج الله همَّك، وكشف غمَّك، وأخلف عليك خيرًا.
روابط ذات صلة:
كيف أفرق بين بلاء الرفعة وبلاء العقوبة؟