الإستشارة  -   المستشار :  أ. فتحي عبد الستار 
-  القسم : الابتلاءات والمصائب 
-  التقييم :   
-   عدد المشاهدات :   153 153
-  رقم الاستشارة : 2238 
02/08/2025
 
أنا موظف لي أكثر من 15 سنة، ويا دوب أقدر أوفر أقل شي تحتاجه عائلتي. كل ما شفت ناس أقل مني كفاءة ورزقهم متيسر، أحس بحزن وقهر وشوية اعتراض في داخلي.
أنا عارف إن الرزق بيد الله، بس الواقع اللي أعيشه متعبني.
كيف أقدر أغرس الرضا الحقيقي بقلبي؟
وهل هالضيقة اللي أحس فيها تعتبر نقص في الإيمان؟
مرحبًا أخي الفاضل، وشكرًا جزيلًا لك على ثقتك بنا ومراسلتك إيانا بمكنونات قلبك. أسأل الله العلي القدير أن يشرح صدرك، وينير بصيرتك، ويرزقك الرضا والسكينة والطمأنينة، وأن يبارك لك في رزقك وفي أهلك، وأن يفتح عليك من أبواب فضله وكرمه ما تقرّ به عينك ويهنأ به بالك، وبعد...
فما تشعر به من ضيق وحزن هو شعور إنساني فطري، ولا يعني أبدًا نقصًا في إيمانك بالله، بل هو صراع داخلي يعيشه كثيرون، خصوصًا في خضم تحديات الحياة وصعوباتها.
إن مقارنة النفس بالآخرين شعور يُداهم القلوب، وقد يورث شيئًا من القهر والحسرة، ولكنّ الأهم هو كيف نتعامل مع هذه المشاعر، وكيف نحولها إلى وقود لتقوية إيماننا ورضانا بقضاء الله وقدره.
دعنا نتناول هذه المشاعر خطوة بخطوة، ونستلهم النور من كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ.
الرزق بيد الله وحده
أخي الحبيب، إن أول ما يجب أن يترسخ في قلوبنا هو اليقين المطلق بأن الرزق بيد الله وحده. هذا اليقين ليس مجرد كلمة تقال، بل هو مفتاح السكينة والطمأنينة. فالله -سبحانه وتعالى- هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. إن رزق العباد مقسوم ومقدر من الأزل، فلا يستطيع أحد أن يزيد في رزقه ذرة، ولا أن ينقص منه ذرة.
لقد تكفل الله برزق جميع الخلائق، وهو أعلم بما يصلح لكل نفس. يقول تعالى في محكم آياته: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود: 6]. وهذا يبعث على الطمأنينة، فإذا كانت الدابة التي لا عقل لها ولا تدبير، قد تكفل الله برزقها، فكيف بالإنسان الذي كرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه؟
مقارنة نفسك بالآخرين باب للقلق
إن مقارنة نفسك بمن حولك، خصوصًا مَن ترى أنهم أقل كفاءة منك ورزقهم متيسر، هو مصدر رئيسي للهم والحزن. إن هذه المقارنات غالبًا ما تكون ناقصة وغير مكتملة. أنت ترى ظاهر حالهم، ولا تعلم خبايا أمورهم. قد يكون لديهم من الابتلاءات والمصائب ما لا يعلمه إلا الله، وقد يكون ما تراه من تيسير في الرزق الظاهري يخبئ وراءه حرمانًا من نعم أخرى لا تقدر بثمن، كراحة البال، أو الصحة، أو صلاح الأبناء، أو القرب من الله.
وقد نهى النبي ﷺ عن النظر إلى من هو أعلى في أمور الدنيا، وحث على النظر إلى من هو أدنى ليدوم الرضا والشكر. فقد قال ﷺ: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» [رواه مسلم]. إن تطبيق هذا الحديث النبوي الشريف سيساعدك كثيرًا على غرس الرضا في قلبك. تذكر دائمًا أن هناك من هو أقل منك بكثير، وهناك من يتمنى نصف ما تملكه من صحة وعافية وأسرة على سبيل المثال.
هل الضيق نقص في الإيمان؟
شعورك بالضيق والحزن والقهر ليس بالضرورة نقصًا في الإيمان؛ بل هو جانب من جوانب النفس البشرية التي تتقلب بين الأحوال. الإيمان يزيد وينقص، وهذا أمر طبيعي. المهم هو ألا تستسلم لهذه المشاعر السلبية، وأن تجاهد نفسك للتغلب عليها بتقوية يقينك بالله تعالى.
إن الإيمان الحقيقي يظهر في لحظات الشدة والضيق. فإذا شعرت بالضيق، ثم عدت إلى الله بالدعاء والذكر والتفكر في عظيم نعمه عليك، فهذا دليل على أن جذور الإيمان عميقة في قلبك. يقول ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» [رواه مسلم]. فالضيق والألم قد يكونان وسيلة لاختبار صبرك، وتقوية إيمانك، ودفعك للجوء إلى الله أكثر.
كيف تغرس الرضا الحقيقي في قلبك؟
غرس الرضا الحقيقي في القلب يتطلب جهدًا ومجاهدة للنفس، وهو عبادة عظيمة تقربك من ربك. إليك بعض الخطوات العملية التي تساعدك على ذلك:
1- اليقين المطلق بقضاء الله وقدره:
اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن كل شيء مقدر مكتوب. هذا اليقين يريح القلب ويزيل عنه قلق المستقبل. قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51].
وتذكر الحديث القدسي الشريف: «يا ابن آدم، إنك إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى، لم أرضَ لك ثوابًا دون الجنة» [رواه ابن ماجة].
2- التدبر في نعم الله عليك:
بدلًا من التركيز على ما ينقصك، انظر إلى النعم التي أنعم الله بها عليك. صحتك، عائلتك، سقف يؤويك، طعام يكفيك، أمان، إيمان... هذه نعم لا تقدر بثمن، وكثيرون محرومون منها. قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].
وكلما حمدت الله وشكرته على نعمه، زادك الله منها، قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
3- فهم حكمة الله في توزيع الأرزاق:
الله -عز وجل- يعلم ما هو الخير لك وما هو الشر. قد يكون تيسير الرزق لغيرك فتنة لهم، وقد يكون تضييق الرزق عليك خيرًا لك، يحفظك من الطغيان أو يجعلك أكثر قربًا من الله.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]. فالله يقدر لك الأنسب والأصلح لحالك في الدنيا والآخرة.
4- الرضا بالقليل والقناعة:
صدق من قال: «القناعة كنز لا يفنى»، فعندما تقنع بما قسمه الله لك، ترتاح نفسك وتطمئن روحك. وقال ﷺ: «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» [رواه مسلم]. والقليل المبارك خير من الكثير الممحوق البركة.
5- الدعاء والتضرع إلى الله:
أكثر من الدعاء بأن يرزقك الله الرضا والقناعة. اسأله أن يبارك لك في القليل، وأن يعينك على شكر نعمه. قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
ومن الأدعية الجامعة: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقًا إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة».
6- العمل والاجتهاد والأخذ بالأسباب:
الرضا لا يعني التكاسل وترك العمل. اسعَ واجتهد في طلب الرزق الحلال، وابذل قصارى جهدك. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]. افعل ما بوسعك، ثم توكل على الله وسلِّم أمرك له.
7- التقرب إلى الله بالطاعات:
الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاستغفار تزيد الإيمان وتثبت القلب وتجلب الراحة النفسية. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. إن زيادة الطاعات تجعلك تشعر بالقرب من الله، وهذا القرب يورث الرضا بما قدره سبحانه.
وختامًا أخي الكريم، إن رحلة الرضا رحلة مستمرة، قد تتعرض فيها للمنغصات والصعوبات، ولكنّ المؤمن الحق هو من يجاهد نفسه ويصبر ويحتسب أمره لله. تذكر دائمًا أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن الأرزاق فيها ليست مقياسًا لقرب العبد من ربه أو بعده، بل الميزان هو التقوى والعمل الصالح.
لا تيأس من رحمة الله، ولا تستسلم لمشاعر الضيق. كن واثقًا بأن الله معك، وأنه لن يخذلك أبدًا. اجعل همك الأكبر أن تكون من أهل الآخرة، وأن تنال رضوان الله وجنته، فحينها تهون عليك كل مصاعب الدنيا وتزول كل همومها.
أسأل الله –تعالى- أن يملأ قلبك رضا وسكينة، وأن يرزقك من واسع فضله، وأن يجعل كل ما تمر به من تحديات رفعة في درجاتك وتكفيرًا لسيئاتك. وتابعنا بأخبارك.
 
 