بين ألمي الشخصي وآلام غزة.. أين أضع دعائي؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الابتلاءات والمصائب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 210
  • رقم الاستشارة : 2203
29/07/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومساء الخير على أهل الخير.

أنا امرأة مرّت بتجربة ظلم شديدة، وما زالت تبعات هذا الظلم تُلازمني حتى اللحظة.

قلبي مثقل بالحزن، وواقعي ليس خاليًا من الحاجة والحرمان، لكن رغم ذلك أجد نفسي أتابع أحداث غزة لحظة بلحظة، وأتألم لألمهم وأبكي لحالهم، حتى أصبحت دعواتي خالصة لهم، ليلًا ونهارًا.

كنت فيما مضى أدعو لنفسي كثيرًا، أطلب من ربي حاجاتي، أستعين به على من ظلمني، وأسأله أن يرد لي ما سُلب مني.

لكن الآن... استحييت أن أطلب لنفسي شيئًا، في وقت أرى فيه أطفالًا في غزة لا يجدون لقمة الخبز، ولا سقفًا يحميهم، ولا ماءً يبلّ ريقهم. مقارنةً بحالهم، أشعر وكأنني أعيش في النعيم، رغم أني في داخلي موجوعة ومقهورة، وأن في حياتي نواقص كبيرة.

فكيف أوازن بين شدة تعاطفي معهم، واحتياجي الحقيقي الذي لا يُنكر؟

هل من الخجل أو الجفاء أن أمدّ يدي بالدعاء لنفسي وأولادي في وقت يعيش فيه إخوتي في غزة هذا الجحيم؟

كيف أطلب وأنا أرى من لا يطلب إلا الخبز؟

وهل في امتناعي عن الدعاء لنفسي صورة من صور الظلم الداخلي؟

أرجو منكم التوجيه بنصح رحيم... فأنا بين نارين: نار الألم الشخصي، ونار الشعور بالحياء من ربي في ظل معاناة غيري.

جزاكم الله عني كل خير.

الإجابة 29/07/2025

مرحبًا بك أختنا الكريمة، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وصبَّحك الله ومسَّاك أنت وأهلك جميعًا وكل من يقرأ، بالخيرات والبركات. وأشكر لك ثقتك بنا ومراسلتك إيانا، وأسأل الله –سبحانه- أن يفرج همك، ويكشف كربك، ويجبر كسرك، ويرد لك حقوقك، وأن يرزقك السكينة والطمأنينة، وأن يتقبل دعاءك لإخواننا في غزة، ويجعل ذلك في ميزان حسناتك، ويخفف عنهم آلامهم، وينصرهم نصرًا عزيزًا مؤزرًا، وبعد...

 

فيا أختي الفاضلة، إنك رغم الألم الذي تعيشينه جرَّاء الظلم الذي وقع عليك، ورغم الحاجة والحرمان اللذين يثقلان قلبك، تتعاطفين بصدق مع أهل غزة، وتتألمين بشدة لأوجاعهم، وتذرفين الدموع لحالهم، وتخصصين دعواتك لهم ليلًا ونهارًا، وهذا والله شاهد صدق على قلبٍ نابضٍ بالإيمان، ونفسٍ زكيةٍ، وروحٍ متساميةٍ، تجسد أسمى معاني الأخوة الإيمانية التي حثنا عليها ديننا الحنيف.

 

إن هذا الشعور النبيل بالتعاطف مع إخوتنا في الدين وفي العروبة وفي الإنسانية هو جزءٌ لا يتجزأ من الإيمان، كما قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه مسلم].

 

الموازنة بين الاحتياج الشخصي والتعاطف العام

 

أختي الفاضلة، تسألين عن كيفية الموازنة بين هذا التعاطف الجياش واحتياجك الأصيل، وبين حياء الدعاء لنفسك في ظل معاناة غيرك، وأؤكد لك بداية أن الإسلام دين التوازن والاعتدال في كل شيء. فكما يدعونا إلى التعاطف مع إخواننا ومشاركتهم آلامهم، فإنه أيضًا لا يغفل عن حاجاتنا الفردية والضرورية.

 

إن الدعاء لله –تعالى- هو العبادة بحد ذاتها، كما قال رسول الله ﷺ: «الدعاء هو العبادة» [رواه الترمذي]. والله سبحانه وتعالى يحب أن يسأله عباده كل شيء، الكبير والصغير، لأنفسهم ولغيرهم. فالدعاء لنفسك لا يناقض الدعاء لإخوانك؛ بل هو إظهارٌ لافتقارك وحاجتك إلى الله في كل أحوالك.

 

إن الله تعالى خزائنه لا تنضب، وعطاؤه لا يقل. فدعاؤك لنفسك لا ينتقص من عطائه لإخوانك في غزة شيئًا. بل إن الله سبحانه وتعالى يحب أن يسأله عباده، وهو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]. فكيف تحرمين نفسك من هذا الفيض العظيم؟ إن الله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو على كل شيء قدير: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: 12].

 

القوة الذاتية سند لمساعدة الغير:

 

إن الإنسان القوي المستقر نفسيًّا وماديًّا يكون أقدر على مد يد العون للآخرين، ولو بالدعاء الخالص. فإذا كنتِ أنتِ في حالٍ من الضعف والوهن بسبب إهمال حاجاتك، فكيف ستستمرين في الدعاء بقلبٍ حاضرٍ لإخوانك؟ إن الله –تعالى- لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو يعلم ما في قلبك من ألمٍ وحاجةٍ. والموازنة تكمن في أن تجمعي بين الدعاء لنفسك بالصلاح والعافية ورفع الظلم، وبين الدعاء لإخوانك بالفرج والنصر. قلبك يتسع لهما جميعًا، وربك قادرٌ على الاستجابة للجميع.

 

فليس من الخجل أو الجفاء إطلاقًا أن تمدي يديك بالدعاء لنفسك وأولادك في وقت يعيش فيه إخوتك في غزة هذا الجحيم؛ بل هو من كمال العبودية لله تعالى، ومن تمام الإيمان بقدرته وكرمه.

 

الأنبياء والصالحون دعوا لأنفسهم ولأهليهم:

 

تأملي دعوات الأنبياء -عليهم السلام- في القرآن الكريم، فستجدينهم يدعون لأنفسهم ولأهليهم ولذرياتهم، وهم في أشد الابتلاءات. فنوح عليه السلام دعا: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: 28]. وإبراهيم عليه السلام دعا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41]. وزكريا عليه السلام دعا بالذرية الصالحة. وهذا رسولنا الكريم ﷺ كان يدعو لنفسه ولأهله ولأمته.

 

إن الله –تعالى- يعلم أنك تمرّين بتجربة ظلمٍ قاسيةٍ، وأن قلبك مثقلٌ بالحزن، وأن واقعك ليس خاليًا من الحاجة والحرمان. وهو –سبحانه- المجيب دعوة المضطر، وأنتِ في ضيقٍ وحاجةٍ، فكيف تمنعين نفسك من طرق بابه؟

 

تباين الابتلاءات وتفاوت الحاجات:

 

أختي الفاضلة، إن الله –تعالى- يبتلي عباده بما يشاء، ويوزع الأرزاق والابتلاءات بحكمته البالغة. فما ترينه في غزة هو فعلًا ابتلاءٌ عظيمٌ ومؤلمٌ، وحاجتهم للخبز والماء والمأوى هي حاجاتٌ أساسيةٌ لا شك في هذا. ولكن هذا لا يعني أن ألمك وحاجتك أقل أهمية في ميزان الله. فكل إنسانٍ يُبتلَى بما يناسبه، وكلٌّ له حاجاته التي يعلمها الله. وقد قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]. فالابتلاءات تتنوع، والصبر عليها مطلوبٌ في كل الأحوال.

 

الامتنان لا يمنع السؤال:

 

شعورك بالامتنان لله عز وجل، وبأنك في نعيمٍ مقارنةً بحال إخوانك وأخواتك في غزة، شعورٌ محمودٌ ومطلوبٌ. ولكن الامتنان لا يمنع السؤال؛ بل إن من تمام الامتنان والحمد والشكر أن تسألي الله المزيد من فضله، وأن تطلبي منه رفع ما ألمَّ بك؛ لأنك تعلمين أنه وحده القادر على ذلك.

 

الله يُحب أن يُسأل:

 

إن الله -تعالى- يحب أن يسأله عبده كل شيء، حتى شسع نعله إذا انقطع. فكيف تمنعين نفسك من سؤاله حاجاتك الكبيرة التي تثقل كاهلك؟ إن عدم سؤالك لله قد يكون نوعًا من عدم إظهار الافتقار إليه، وهو ما لا يحبه الله. فقد جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم» [رواه مسلم].

 

تسألين: «هل في امتناعي عن الدعاء لنفسي صورة من صور الظلم الداخلي؟»، وأجيبك: نعم يا أختي، قد يكون في امتناعك عن الدعاء لنفسك صورة من صور الظلم الداخلي، أو على الأقل، حرمان للنفس من حقها المشروع في الالتجاء إلى خالقها وبارئها.

 

إن لنفسك عليك حقًّا، ومن هذا الحق أن تطلبي لها الخير والعافية، وأن تستعيني بالله على مصاعب الحياة. فإذا أهملتِ هذا الجانب، فقد تزيد معاناتك النفسية، وقد تضعفين عن أداء واجباتك تجاه نفسك وتجاه أولادك. والمؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

 

إن الانقطاع عن الدعاء للنفس قد يؤدي إلى شعورٍ باليأس أو الإحباط، وهذا يتنافى مع روح الأمل والرجاء في الله التي يجب أن يتحلى بها المؤمن. فمهما عظمت المحن، يبقى باب الله مفتوحًا، ودعاؤه مستجابًا.

 

الدعاء يدفع البلاء:

 

إن الدعاء سلاح المؤمن، وهو يرد القضاء. فكيف تتخلين عن هذا السلاح في مواجهة الظلم الذي وقع عليك؟ إن دعاءك على من ظلمك هو حقٌ مشروعٌ لك، والله –تعالى- لا يرضى بالظلم. وقد قال رسول الله ﷺ: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [متفق عليه].

 

أختي الكريمة، لا تضعي نفسك بين نارين، بل اجمعي بين الحسنيين: استمري في دعائك الصادق لإخوانك في غزة، فإن دعاءك لهم هو من أعظم الأعمال الصالحة، وهو سلاحٌ لا يملكه غيرهم.

 

لا تتوقفي عن الدعاء لنفسك وأولادك: اطلبي من الله كل ما تحتاجينه، اطلبي منه رفع الظلم، وجبر الكسر، وتيسير الأمور، وصلاح الحال. اطلبي منه الرزق والعافية والسكينة. فالله يحب أن تسأليه، وهو القادر على إجابة دعواتك جميعًا.

 

وختامًا، أختي الفاضلة، إن قلبك الذي يتألم لألم إخوانه في غزة، وفي الوقت نفسه يشعر بوجعه الخاص، لا تحرميه من حقه في الالتجاء إلى الله بكل ما فيه. ارفعي أكف الضراعة لله تعالى، واسأليه بقلبٍ خاشعٍ، فهو القادر على أن يجبر كسرك، ويرد لك حقوقك، ويفرج عن إخواننا في غزة، وينصرهم نصرًا عزيزًا. ثقي بأن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأن دعاءك كله مسموع ومُجاب بإذنه تعالى.

 

نسأل الله أن يفرِّج همك وكربك، وأن يرزقك الصبر واليقين، وأن يبارك فيك وفي أولادك، وأن ينصر المستضعفين والمظلومين في غزة وفي كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الرابط المختصر :