طفلي منعزل.. كيف أدعمه بعد وفاة والده؟!!

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : الأطفال
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 67
  • رقم الاستشارة : 3422
01/12/2025

أكتب لك هذه الاستشارة بصفتي أمًا فقدت زوجي، وأشعر بالحيرة والقلق تجاه طفلي الذي لا يملك أصدقاء. يمضي وقتًا طويلًا بمفرده، لا يشارك أقرانه في اللعب، ولا يُدعى إلى الأنشطة الاجتماعية.

هذا الأمر يثير في نفسي أسئلة موجعة: هل يعاني من مشكلة اجتماعية؟ هل هو مرفوض؟ هل يتألم في صمت؟ وماذا يمكنني أن أفعل وأنا أحاول أن أكون له الأب والأم معًا؟ أحاول ألّا أجعل من غياب الأصدقاء أزمة أكبر من حجمها، وأذكّر نفسي أن بعض الأطفال يحتاجون وقتًا أطول لبناء علاقات. لكن في داخلي خوف أن ينعكس ذلك على ثقته بنفسه أو إحساسه بالقبول، خصوصًا وهو يعيش تجربة فقد الأب.

أتحدث معه بلطف وأسأله عن الأطفال الذين يحبهم، وأستمع له دون نقد، لكني لا أعرف إن كان هذا كافيًا. أفكر أن أدربه على المهارات الاجتماعية البسيطة، مثل كيف يبدأ الحديث أو ينضم إلى اللعب، وأبحث له عن بيئات صغيرة وآمنة تمنحه فرصًا للتواصل، لكني أخشى أن يكون هناك سبب أعمق يمنعه من تكوين صداقات، مثل تجربة سخرية أو ضعف في الثقة بالنفس.

أنا لا أريد أن أضغط عليه أو أعيّره، بل أريد أن يكون البيت مساحة آمنة يشعر فيها بالقبول والحب، وأن أكون أنا قدوته في بناء علاقات صحية، رغم أن الحمل مضاعف عليّ بعد فقدان والده.

ومع ذلك، يظل داخلي سؤال: كيف أساعده أن يتجاوز هذه المرحلة، ويشعر أن العالم فيه مكان له كما هو، دون مقارنة أو استعجال؟

فأرجو منك أن ترشديني إلى خطوات عملية، أو توجيه تربوي يساعدني أن أكون سندًا له، حتى يبني علاقاته في الوقت المناسب وبطريقته الخاصة، ويجد في نفسه القوة رغم غياب الأب.

الإجابة 01/12/2025

أهلا بك أيتها الأم الصبورة المجتهدة، أسأل الله أن يربط على قلبك وأن يجعل ابنك قرّة عين لك في الدنيا والآخرة. الكلمات التي كتبتِها تحمل وجع الفقد، وحنان الأم، ووعي المربّية… وكلها دلائل أنك تبذلين ما تستطيعين وأكثر.

 

أولًا: اعلمي أن ما تشعرين به مفهوم ومشروع..

 

من الطبيعي تمامًا أن يقلق قلبك على ابنٍ فقد أحد أركان الأمان في حياته، وأن تتساءلي عن سبب عزلته أو قلّة أصدقائه.

 

علم النفس التربوي يصف حالتك بـ (القلق الوقائي)، وهو قلق نابع من الحب، وليس من المبالغة.

 

وغياب الأصدقاء في هذه المرحلة لا يعني بالضرورة وجود مشكلة، بل قد يشير إلى احتياج وقت للاختلاط، وهو نمط شائع ويُبنى مع الزمن.

 

ثانيًا: هل يوجد خطر على ثقته بنفسه؟

 

الأطفال الذين مرّوا بفقد والد غالبًا تكون لديهم حساسية أعلى تجاه "القبول والرفض". وهذه ليست مشكلة، بل نقطة تحتاج رعاية دقيقة ولطيفة. فإذا توفّر للطفل:

 

- أمان انفعالي داخل البيت.

 

- لغة دعم وتقدير.

 

- فرص اجتماعية صغيرة ومحسوبة.

 

فإن ثقته تنمو تلقائيًّا وفق ما يسمى في علم النفس بـ Secure Base Formation تشكيل قاعدة الأمان. وقد قال تعالى: ﴿إنَّ اللهَ معَ الصَّابِرِينَ﴾، وأنتِ تصنعين بهذا الصبر والتوازن بيئة صحية تبني الثقة من جذورها مع اليقين بأن الله معك، يساعدك فيما كلفك به.

 

ثالثًا: هل سلوك ابنك طبيعي أم مؤشر لمشكلة؟

 

كونه لا يُدعى للأنشطة أو يلعب كثيرًا بمفرده قد يعني أحد أمرين:

 

1- طبع انعزالي بسيط لا يستمتع بالتجمعات الكبيرة لكنه منسجم مع القليل، وهذه طبيعة لطيفة.

 

2- قلة مهارات اجتماعية أولية، مثل بدء الحديث، أو الانضمام للعب.

 

وفي الحالتين، لا يوجد ما يدعو للهلع. فالمهارات الاجتماعية تُكتسب بالتدرّج كما يقول علم النفس الاجتماعي، ضمن ما يسمى Social Skills Scaffolding التسقيف التدريجي للمهارات.

 

رابعًا: وإليك خطوات عملية يمكنك البدء بها اليوم:

 

1- تأمين مساحة أمان داخل البيت..

 

وأنتِ تفعلين ذلك بالفعل بسؤالك اللطيف. استمرّي.

 

فعندما يشعر بأنه مقبول بلا شروط، تتكوّن لديه Emotional Resilience مرونة عاطفية تساعده على الاندماج خارج البيت.

 

2- جلسات صغيرة لتدريب المهارات الاجتماعية..

 

اجعلي الأمر لعبًا وليس تدريبًا، مثلا: لعبة "كيف أبدأ الكلام؟"، لعبة "كيف أطلب اللعب بلطف؟"، تمثيل موقف: كأن يكون طفلان يلعبان، كيف ينضم إليهما؟

 

هذه الطريقة تُسمّى Role-Play Social Training أي (التدريب الاجتماعي للعب الأدوار) وهي فعّالة جدًّا للأطفال.

 

3- منحه فرصًا اجتماعية آمنة وصغيرة، مثل:

 

- طفل واحد يأتي للزيارة.

 

- نشاط صغير منظم.

 

- ثم مجموعة قصيرة لا تتجاوز ٣ أطفال.

 

هذه البيئات الصغيرة تزيد من شعوره بالقدرة والثقة بالنفس.

 

4- وعليك بمراقبة أي نتائج سلبية محتملة معهم ..

 

اسأليه بلطف: "هل حدث أن ضايقك أحد؟ هل ضحك عليك أحد؟"، ليس بهدف التحقيق، بل بهدف فهم ما إن كان هناك Social Anxiety قلق اجتماعي أو Fear of Rejection خوف من الرفض أو عدم التقبل للصحبة نهائيًّا.

 

5- والأهم تعزيز قيمته الداخلية أولا لا علاقاته الخارجية فقط..

 

كرّري عليه رسائل مباشرة:

 

"أنا أحبك كما أنت"، "أنت طفل لطيف وقلبك جميل"، "الصديق يأتي عندما نكون مستعدين"، فهذا يزرع داخله قيمة الذات الداخلية التي تحميه من الإحباط. ويجب أن يكون البيت نموذجًا للعلاقات الصحية.

 

6- أنت لست مطالبة بأن تكوني "الأب والأم معًا"، بل أنت مطالبة فقط بأن تكوني "أنتِ"؛ فكوني قدوة في: الرفق، التواصل الراقي، احترام الآخرين، اختيار العلاقات السليمة. وسوف يتعلم منك دون أن يشعر.

 

7- ثم عليك حبيبتي تعويض غياب الأب بالاتزان لا بالضغط..

 

أي نعم غياب الأب فراغ عاطفي، لكن يجب ألا يتحول إلى "ضغط لتعويضه". فقط يمكنك أن تمنحيه: رجلًا آمنًا في العائلة (خال، جد، عم) يشاركه نشاطًا بسيطًا. فشعوره بأن رجلا يقدّره هذا يساعد في بناء سوي نموذج للارتباط بالذكور، دون مبالغة.

 

خامسا: متى نحتاج إلى متخصص؟

 

فقط إذا لاحظتِ أحد هذه الأمور:

 

- تجنّب شديد لأي تواصل.

 

- بكاء عند المواقف الاجتماعية.

 

- خوف غير مبرر من الأطفال.

 

- تغيّر كبير بعد فقد الأب.

 

- صمت طويل أو انسحاب كامل.

 

وحتى في هذه الحالات يكون التدخل بسيطًا وبدون الحاجة لتدخلات دوائية، وغالبًا قصير المدى.

 

وأخيرًا، ثقي حبيبتي أن ابنك ليس مرفوضًا، ولا معيبًا، ولا متألمًا بالضرورة. هو فقط طفل يبحث بطريقته الخاصة عن الدخول إلى العالم. وأنتِ ـ بعقلك وقلبك وحنانك ـ تساعدينه على أن يجدها دون استعجال، ودون مقارنة، ودون أن يُراق من خلفه حملٌ يثقله.

 

* همسة أخيرة لك غاليتي:

 

قد يكون طفلك قليل الأصدقاء اليوم.. لكنّ قلبًا تُحيطينه بهذا القدر من الحب سيعرف طريقه إلى الناس في الوقت المناسب.

 

أسأل الله أن يربط على قلبك، ويجبر كسرك، ويصلح ابنك، ويجعل لكم من بعد العسر يسرًا ومن بعد الوحدة سعة وطمأنينة.

 

روابط ذات صلة:

ابني المراهق منعزل.. كيف أتعامل معه؟!

أسرتي المنعزلة جعلتني منطوية وأخشى المجتمع.. كيف أتحرر؟!

كيف أنقذ طالبتي من براثن الحزن والانطواء؟!!

الرابط المختصر :